تحليلات ومعلومات ثبت خطؤها- منير شفيق
تصريحان، بل تأكيدان صدرا في قضيتين أساسيتين وكبريين في تقرير وضعية موازين القوى ومسار الصراعات الآن وغداً. وقد صدرا عن الرئيس الأمريكي باراك أوباما بعبارات واضحة لا تقبل التأويل .
التصريح الأول أكد على أن الاتفاق النووي الذي وُقِّع مع إيران، لم يشمل، ولا يشمل، أيّة قضية أخرى في إيران أو في المنطقة. وهو ما جاء متوافقاً مع تأكيدات إيرانية رسمية متعددّة، لم تترك مجالاً للشك في أن الاتفاق النووي محصور في الموضوع النووي الإيراني فقط. وكان ذلك جانباً من جوانب توجيهات الإمام الخامنئي. مما حال منذ اللحظة الأولى، وطوال مرحلة المفاوضات، دون محاولات أمريكا لإدراج مواضيع وقضايا أخرى لتشملها المفاوضات والاتفاق.
الأمر الذي ينسف كل التحليلات أو المعلومات السريّة، أو الشائعات حول وجود صفقة أمريكية – إيرانية تقضي بإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، أو بالتفاهم على عقد مثل هذه الصفقة لاحقاً بعد عقد الاتفاق النووي والمضيّ في تنفيذه. وكان هنالك من راحوا يتوقعون أن تُحَل الكثير من الأزمات والصراعات في ما بعد الاتفاق النووي. وقد اشتهرت موضوعة تقول: “ما بعد الاتفاق النووي لن يكون كما كان قبله”، بمعنى تعميم مسار الاتفاق على القضايا الأخرى، أو بعضها، في الأقل.
والأهم، أن وقائع السياسات اللاحقة راحت تؤكد كل يوم بأن الخلافات الأمريكية – الإيرانية في كل القضايا والأزمات الأخرى استمرت على حالها السابق بين الطرفين، بل يمكن أن نتوقع إشكالات، أو تعثراً، في تطبيق الاتفاق نفسه لاحقاً. وذلك بالرغم من تقدّم الجانبين، في هذا الأسبوع، خطوة إيجابية في توقيعه رسمياً والبدء بتنفيذه.
على أن المشكلة التي لا بدّ من أن تُرسل غمزة حولها، وهي موقف الذين ملأوا الإعلام بالتحليلات وبالمعلومات السريّة حول صفقة كبرى بين أمريكا وإيران تشمل القضايا الأخرى، عدا النووي، وأن “الشرق الأوسط” ما بعد الاتفاق سيخرج أمريكياً – إيرانياً مشتركاً، أي ماذا سيقولون الآن لقرائهم أو مستمعيهم أو من تبعوهم بما ذهبوا إليه؟
الجواب، طبعاً لا مراجعة، ولا نقد ذاتي، ولا حاجة إلى أن يطرفَ لهم جفن. فالمهم نحن أولاد اليوم وعليهم أن يعيدوا إنتاج منهجهم في التحليل أو تسريب المعلومات. ومن ثم علينا أن نسمعهم أو نجرّبهم مرّة أخرى.
أما التصريح الثاني الذي أكده أوباما فيتعلق بالتدخل الروسي العسكري في سوريا، وهو قوله، بصورة قاطعة، “إن التفاهم الوحيد بين أمريكا وروسيا حوله محصور في نقطة واحدة فقط ،هي التنسيق بين الطرفين من أجل عدم حدوث صدام بين طائرات أمريكية وروسية في الأجواء السورية“.
الأمر الذي يُفترض بهذا التصريح الواضح بأن ينفي أيّة اتفاقات أخرى بين روسيا وأمريكا. ومن ثم يتوجب أن تُقرأ الخطوة الروسية بمعزل عن اعتبارها صفقة مع أمريكا. بل خطوة تمت بالرغم من أمريكا، وإن لم تعارضها بأشدّ العبارات أو لم تعلن “الحرب” عليها حتى الآن، فأمريكا أطلقت تصريحات مرتبكة حول ابتلاعها والغصّ بها في آن واحد، بل يمكن القول إن أمريكا بصدد الإعداد للمواجهة، بصورة سياسية مباشرة، وبصور عنفية غير مباشرة، أو من خلال تشجيع معارضيها ودعمهم.
على أن أكثر التحليلات والمعلومات السريّة المسرّبة ذهبت إلى اعتبارها خطوة متفقاً عليها بين أوباما وبوتين، وسينجم عنها حل سياسي للأزمة السورية، فهنالك من استندوا إلى حجّة عقلية بالقول “من غير المعقول أن تأخذ روسيا هذه الخطوة من دون موافقة أمريكية، أو الاتفاق مع أمريكا”. وهذه الحجّة من أضعف الحجج التي تقدم بالنسبة إلى أي تحليل سياسي لظاهرة مستجدة لم يسبق لها مثيل. وقد جاءت ضمن موازين قوى جديدة وظروف جديدة. مما يجعل ما كان متعارفاً عليه بل اعتبار المستجد هو المعقول ولو بدا غير معقول قياساً للماضي.
تصريح أوباما يؤكد أن الخطوة الروسية تمت بالرغم من أمريكا، ولو وافقت عليها بعد أن أُبلغت بقرار اتخاذها، وتصميم بوتين على تنفيذها. وبهذا يصبح من المعقول أن تتم هذه الخطوة الروسية من دون اتفاق مع أمريكا على الرغم من ابتلاعها لها. فما هو حادث هو المعقول. لأن الحكم الفيصل هنا هو ما سيكشفه المستقبل القريب أو المتوسط عن حقيقة موقف أمريكا منها. علماً بأن الاتجاه العام للمواقف الأمريكية منذ التدخل الروسي في سوريا حتى الآن. يتكشف عن عدم رضا امريكي. بل عن بوادر صراع قادم وضربات تحت الحزام. ولكن في ظل ارتباك وتردّد.
إلى هنا يجب إدراج الخطوة الروسية، كما راحت تتكشف مجموعة الممارسات العسكرية الروسية وعدد من تصريحات كل من بوتين ولافروف، باعتبارها خطوة استراتيجية كبرى يتعدّى هدفها هدف الدعم الروسي لسوريا أو محاربة الإرهاب. أي إعادة موضعة روسيا كدولة كبرى في موقع الند لأمريكا إن لم تكن في موقع امتلاك زمام المبادرة سورياً وعربياً وإقليمياً وفي عدد من القضايا العالمية، وهو ما لا تقبل به أمريكا، ويُشكل إضعافاً لها. بل يمكن القول إن بوتين سيذهب إلى أبعد مدى يسمح به ميزان القوى.
ولهذا راح بوتين يتحرك بطيرانه الحربي وبالخطة العسكرية المتفق عليها بين روسيا وسوريا وإيران وحزب الله، بسرعة خاطفة، وعلى نطاق عدة جبهات، وذلك لأجل تحقيق إنجاز ميداني كبير، قبل أن يرتّب الآخرون أوراقهم.
أما أمريكا فقد تقدمت باقتراح عقد لقاء روسي– أمريكي – تركي – سعودي – أردني لبحث الموضوع السوري، ومستبعِدة إيران كما عقد لقاء أمريكي – روسي – سعودي. الأمر الذي جعل البون شاسعاً بين ما يفعله بوتين وما يقترحه أوباما. أو كما يمكن إن يُقال شتان ما بين مُقبل ومدبرٍ أو ما بين فاعل ومُصَفّرٍ. وهو ما يجعل كل تحليل اعتبر الخطوة الروسية في سوريا قد تمت بتفاهم مع أمريكا، أو بأن وراءها خطة متفقاً عليها غير قادر على الصمود أمام ما يجري على الأرض ونتائجه، أو أمام ما تحاول أمريكا استدراكه من خلال ما تقدمه من اقتراحات ونصائح لبوتين أو حتى تحذيرات لا صدقية لها. أما مؤتمر فيينا الرباعي الذي استبعد إيران وما نشأ داخله من مطالبة روسية بإشراك إيران ومصر في لقائه القادم إذا حصل، يدل على أن المبادرة بيد روسيا.
من هنا يكون التدخل الروسي في سوريا قد أدخل عاملاً جديداً كبير الأثر ليس في مستوى سوريا فحسب، وإنما أيضاً في مستوى الأوضاع في المنطقة العربية – التركية – الإيرانية. بل والعالمية. فتقدير الموقف قبل هذه الخطوة لا يصلح أن يستمر بعدها. ولا سيما بعد بعض الوقت من تداعياتها وتداعياتها المضادة. فأمريكا لا بد أن تعيد حساباتها وكذلك تركيا والسعودية كما فعلت القوى المعنية، ليس بالشأن السوري فحسب، وإنما أيضاً على المستوى العام، وذلك مع التأكد من استبعاد وجود اتفاقات لتسويات قادمة، فكل آتٍ سيخضع لنتائج الصراعات وما ستسفر عنه، فضلاً عن خيبة الكثير من التوقعات والحسابات.
والكل يقف على رمال متحركة.