«فيينا السوري»: أفكار «ملموسة».. لا تحسم وجهة الحل! وسيم ابراهيم
تحت سماء ملبّدة بغيوم محتارة، لا تمطر ولا تنقشع، انعقد مؤتمر «فيينا السوري». رغم تسميته هذه لكن لا سوريين فيه، نظاماً كانوا أم معارضة. يقول متفائلون يطمحون للوساطة: لدينا أفكار ملموسة، يمكنها أن تحرك مرحلة انتقالية في سوريا «بوتيرة معقولة». يقول المتشائمون: إذا نجحنا في إجلاس السعودية وإيران حول طاولة واحدة، فهو بحد ذاته نجاح، لكنه من قبيل «بصيص الأمل الصغير». إذا صحّ كلام المتفائلين، فهي مرحلة جديدة بكل معنى الكلمة. أما إذا صح التشاؤم، فعلى الاختراق الديبلوماسي المرتقب.. السلام!
بدأ المؤتمر عمليا أمس، مع سلسلة لقاءاته الافتتاحية، ثنائية، ثلاثية، رباعية.. لكن حتى من دون انتظار انعقاد الالتمام الكبير اليوم، لجميع الدول المشاركة التي تجاوزت حاجز 12 دولة، تحقق الخرق الديبلوماسي. إيران مدعوة للجلوس على الطاولة الدولية بحثا عن الحل السوري، بعد استبعادها عن جنيف الأول والثاني، عامي 2012 و2014.
مع ذلك، بقي السؤال الذي يدور حول كل الاجتماعات: حول ماذا يدور هذا المؤتمر بالتحديد؟ أبرز المتفائلين كانت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني. أقرت بأن التماماً كهذا فقط، يجمع إيران والسعودية مع الآخرين، يمكنه أن يجلب أملاً يغير تكرار الأيام الدموية السورية. لكنها لم تتوقف عند هذا الاختراق المأمول تحقيقه اليوم. أكدت أن لدى الأطراف الدولية تفاهمات أوسع، يمكن اختبارها، واصفة إياها بأنها «أفكار ملموسة جدا» حول ملامح «المرحلة الانتقالية».
اللافت أن حديثها عن الأفكار الملموسة شمل قضيتين: إصلاح الدستور السوري وإجراء الانتخابات. هذا الثنائي «الملموس» ربطته مباشرة بالمؤتمر، معتبرة أنه «إذا خلقنا الفضاء السياسي مع الجهات الفاعلة، للبدء (بالخطوتين)، فأنا واثقة بأنه يمكن أن نتقدم مع وتيرة معقولة». هذا يعني برأيها البداية من مكان، لكن تبقى «النهاية في مكان آخر»، لتبقى العملية الانتقالية مرهونة بتحديد هذه المسافة ومحطاتها.
ورغم تعارض بين هذه «الأفكار» وبيان جنيف، تبنى المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا دعم هذه الأفكار. صحيح انه تحفظ في البداية، لكنه عاد وقال خلال تصريحات، لـ»السفير»، «أنا أؤيد أية أفكار طالما أنها ستفتح المجال لحل سوري».
وزير الخارجية الأميركية جون كيري كان يتنقل من مكان إلى آخر، من اجتماع لآخر، بين فندق «بريستول» حيث تقيم بعض الوفود، وفندق «إمبريال» الذي انعقد فيه المؤتمر وأقامت فيه وفود أخرى. عبوره المئة متر تقريباً كان يحدث جلبة كبيرة، مع تدافع الصحافيين للحاق بلحظة استثنائية للتصوير، والدردشة، لا تتيحها عادة التشديدات الأمنية المعروفة أميركياً. كان يمتنع عن الرد على أسئلة كثيرة، مجيباً على قلة منها بكلمات مقتضبة لكنها واضحة الدلالة. سألته «السفير»، هل بالفعل لديهم أفكار ملموسة؟ اكتفى بإجابة قاطعة: إنها موجودة «بالتأكيد».
كان ذلك تأكيدا آخر بأن كلمات موغيريني ليست من نسج تفاؤلها. هي بالأساس على علاقة طيبة بالإيرانيين، وطهران حرصت على الترحيب بدور وساطتها، لتشكيل مجموعة الاتصال الدولية على غرار لمّة فيينا. كلام موغيريني عن الإصلاح الدستوري في سوريا، مع بحث الانتخابات، يأتي أيضا بعد مباحثاتها مع الإيرانيين، إضافة إلى اتصالاتها مع الروس والأميركيين. في السياق نفسه، كان بارزاً تكرار موسكو لفكرة عقد الانتخابات النيابية، كخطوة لبداية العملية الانتقالية. فوق ذلك، تقول وزيرة خارجية الاتحاد إن التعديلات الدستورية هي أيضا حاجة «لضمان انتقال عادل» في سوريا.
كل هذه المؤشرات تجتمع لترجّح وجود تفاهمات جديدة، حتى لو كانت بقية الأطراف لم تذهب إلى التفاصيل التي ذكرتها موغيريني. مع ذلك، شددت مصادر أوروبية قريبة من موغيريني لـ «السفير» على أنه «يجب التروي» قبل القول إن كلامها نتيجة لتفاهمات واسعة، قبل التأكيد على أنه «يجب انتظار ما سيحدث اليوم قبل إصدار أي حكم» من هذا النوع.
لكن ما يمكن التوقف عنده أن هذه التفاهمات، أو الأفكار، تشكل تدرّجاً وسياقاً مختلفين عن بيان «جنيف واحد»، الذي تكرر وروده لسنوات كمرجعية وحيدة للحل. طبعا استمرت طهران بالتحفظ على نقاط فيه. لكنه، على كل حال، يقرّ البدء بالانتقال عبر إصلاحات دستورية، وجعل آخر خطوة في جنيف تكون الأولى في فيينا.
بيان جنيف ركّز أولا على أن ما سيشكله النظام والمعارضة، بالتراضي، هو «هيئة حكم انتقالية». ترك للطرفين، خلال التفاوض، تحديد شكل هذه الهيئة، سواء حكومة أو مجلس حكم أو حكماء. جنيف أعطى للهيئة صلاحيات ستخضع لها «جميع المؤسسات الحكومية، بما فيها دوائر الاستخبارات». بعد ولادة «الهيئة»، يفترض الاتفاق الروسي والأميركي الأولي أنه ستنقل إليها الصلاحيات «التنفيذية». بعد ذلك، سيكون عليها الإشراف مع الرئاسة السورية على عملية «حوار وطني» لتحديد مستقبل البلد وشكل الحكم فيه. بناء على ذلك، ستعاد صياغة دستور جديد، ومن ثم يعرض على الاستفتاء العام. بعد كل ذلك، سيأتي اعتماد نظام دستوري جديد، ليليه الإعداد لانتخابات عامة، رئاسية أو برلمانية بحسب نظام الحكم الذي سيكون حدده الدستور سابقاً.
سبق لواشنطن أن ألمحت إلى تفاهمات غامضة، سماها كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف «خطوات صغيرة ممكنة»، قبل أن تنشط الديبلوماسية الدولية بشكل «ثوري» فجأة. يزور الرئيس السوري بشار الأسد موسكو، ويزوره وزير خارجية عمان، لتطلق موسكو حملة ديبلوماسية واسعة، فتدعو واشنطن لمؤتمر مستعجل، لدرجة أن جدولته ولقاءاته وحضوره كلها لم تكن واضحة قبل يوم من التئامه. إذا صحّ تفاؤل من تحدثوا عن «الأفكار الملموسة»، لا يكون التعويل لاختبارها، ولا حتى إنضاجها، على الاجتماع الكبير المرتقب. لا تعقيدات الأزمة السورية، بحربها وامتداداتها، ولا خصومات المنخرطين الإقليميين فيها، تسمح بتوقع اجتراح نضوج «أفكار ملموسة» في اجتماع كبير. إن كان لهذه الأفكار أن تثمر، ويتحدد مصيرها، فهذا سيظهر كنتيجة للقاءات الكثيرة، التي لم تتضح حيثياتها بعد.
أمام كل ذلك، هناك متشائمون لا يأتي رسمهم الأفق العابس عن عبث. وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير قال إنه لا يجب توقع الكثير، ولا حتى أكثر من الاختراق المنتظر الذي سيكون إنجازا كما يراه. قال، معلقاً على أجواء انعقاد المؤتمر الاستعجالي، «سيكون هناك بصيص أمل صغير إذا نجحنا في جمع كل اللاعبين على الطاولة في فيينا». كل اللاعبين كانوا في فيينا، لكن مع ذلك ما زال الوزير الألماني متشككاً. لا يمكن لومه. الرجل قادم من زيارة للمنطقة، كانت الرياض وطهران محطتيها الأساسيتين. يبدو أنه سمع ما يحمله على التزام أقصى درجات التحفظ.
في السياق ذاته، وربما في مواجهة «الأفكار الملموسة» الجديدة، تكرر الرياض إصرارها على تدرجية جنيف الأول. وزير خارجيتها عادل الجبير عاد للتأكيد أن لا انتقال سيحصل في سوريا، ما لم يبدأ بهيئة الحكم الانتقالية، بما يقصي الرئيس السوري، وبعدها تأتي الانتخابات وتعديل الدستور. الرياض ليست وحيدة، فمعها تركيا وفرنسا، مع تراجع بريطانيا تحديداً لتلتزم موقف المرونة الأميركي. لكن خصوم دمشق لا زالوا يقولون إن الخلاف مع حلفائها قائم: يريدون حسم مغادرة الرئيس السوري «في نهاية المطاف»، فيما تريد موسكو وطهران تركه يحسم في صناديق الاقتراع.
لكن رغم الحذر من أجواء لقاء اليوم، كان الاختراق الإيراني شبه ناجز. هذا الاختراق شكل إيذانا بانتهاء سنوات من الإقصاء الذي فرضه تصلب المراهنين على إسقاط النظام السوري بالقوة العسكرية، خصوصا «فيتو» الخصم السعودي. طهران كانت تشغل مكانها الجديد على أكمل وجه. وزير خارجيتها محمد جواد ظريف جلس في أماكن خبرها جيداً، خلال جولات تفاوض أنجزت الاتفاق النووي في تموز الماضي. استقبل وزراء خارجية عديدين، بينهم الأميركي والروسي ونظيرتهما الأوروبية، ليتحاوروا معه هذه المرة كطرف معترف بضرورته لإطلاق أي تسوية سورية قابلة للحياة. سيرغي لافروف قابله بالمزاح المعتاد. روح الدعابة كانت حاضرة كرد على محاولة استخراج بعض الكلمات منه، ليحول المحادثة السريعة إلى جولة تعارف: أنا صحافي، أهلا، وأنا ديبلوماسي. لكن الديبلوماسي يجيب. آه، وأنا أجبتك. لكن بعد انتهاء لقائه مع ظريف، ردّ بكلمة معبرة لوصف أجوائه: كان «لقاء ممتازا». على الأرجح، سيكون حكم كهذا على لقاء اليوم مجازفة كبيرة.
(السفير)