حول استراتيجية النضال الفلسطيني- منير شفيق
عندما اتجهت م.ت.ف وفصائلها إلى وضع هدف إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقطاع والقدس، ودحرت إلى الخلف أولوية تحرير الأرض وتفكيك المستوطنات تخلت عن استراتيحية الكفاح المسلح. وتبنت استراتيجية التوجّه إلى الدول للاعتراف بالدولة الفلسطينية وانخرطت في عملية التسوية التي انطلقت من قرار 242، وبالرعاية الأمريكية أو الدولية، ثم إلى المفاوضات المباشرة السرية التي تمخضت عن اتفاق أوسلو الكارثي. وأصبحت المفاوضات ثم المفاوضات في ظل سلطة رام الله وخصوصاً بعد توّلي محمود عباس قيادة فتح والسلطة وم.ت.ف، هي الاستراتيجية الوحيدة لتحقيق هدف إقامة الدولة الفلسطينية. وذلك على أساس حل الدولتين الذي يشترط المفاوضات المباشرة والموافقة الصهيونية على شروط إقامة الدولة من حيث حدودها وتكوينها ونظامها وتسلحها وأمنها وأجهزتها الأمنية .
وكانت المحصلة مضي المخطط الصهيوني بسرعة البرق تحت مظلة المفاوضات في تهويد القدس وإحكام ضمّها لدولته كما استشراء الاستيطان الذي مزق الضفة الغربية بالمستوطنات والطرق الالتفافية. وجعل من شبه المحال أن تجد الدولة الفلسطينية أرضاً تقف عليها.
باختصار، تحديد الهدف أي إعطاء الأولوية لإقامة الدولة كان خاطئاً وكارثياً وعبثياً، ثم تحديد الاستراتيجية أي الانخراط في التسوية والمفاوضات كان خاطئاً وكارثياً وعبثياً كذلك.
أما في المقابل فقد حافظت حماس والجهاد على هدف تحرير كل فلسطين من النهر إلى البحر وأعطت الأولوية لاستراتيجية المقاومة في مواجهة الاحتلال.
وكانت قمة ما حققته هذه الاستراتيجية تحويل قطاع غزة إلى قاعدة مقاومة عسكرية أنزلت الهزيمة بالجيش الصهيوني في ثلاث حروب 2008/2009 و2012 و2014. وقد جاءت هذه النتيجة بعد أن أجبرت الانتفاضة الثانية وما تخللها من مقاومة، حكومة الكيان الصهيوني على فك الارتباط مع قطاع غزة وتفكيك المستوطنات، وبلا قيد أو شرط. الأمر الذي كرّر ما حدث مع الاحتلال الصهيوني لجنوبي لبنان الذي تحرّر بفضل استراتيجية المقاومة بقيادة حزب الله.
وبهذا أصبحت هنالك أرض فلسطينية محرّرة من الاحتلال والاستيطان ولو تحت الحصار.
على أن مشكلة الاحتلال والاستيطان ظلت رابضة على صدر الضفة الغربية والقدس. بل وتفاقمت في ظل استراتيجية المفاوضات. وقد ترافقت هذه الاستراتيجية في عهد محمود عباس باتفاقية التنسيق الأمني وإعادة بناء الأجهزة الأمنية تحت إشراف الجنرال الأمريكي دايتون كما اقتضت هذه الاتفاقية. والأنكى أن تصفية خلايا المقاومة ومنع الانتفاضة، وأيّة نشاطات يعتبرها العدو إرهابية صارت سياسة معلنة لسلطة رام الله.
يجب الاعتراف أن النجاح الوحيد الذي أنجزته استراتيجية المفاوضات والتنسيق الأمني كان في تصفية المقاومة المسلحة والتعاون مع العدو الصهيوني في مداهمة كوادر المقاومة واعتقالهم أو اغتيالهم، وامتدّ هذا النجاح- العار إلى تشكيل “جيش” عرمرم من الموظفين المرتبطين بالراتب آخر الشهر، وغالبيتهم من الفدائيين أو مناضلي الانتفاضتين. وذلك من أجل الإمعان في نشر العجز والضياع والحيلولة دون اندلاع انتفاضة كإجراء مكمل لما تقوم به الأجهزة الأمنية من قمع. وذلك بوجود “جيش” من المثبَطين والمثبِطين.
ولكن هذا النجاح- العار كان مؤقتاً وكان لا بدّ من أن ينهار مع تدفق عشرات الآلاف من الأجيال الجديدة، فتياناً وفتيات، وشباباً وشابات، كما كان لا بدّ من أن ينهار أمام إرادة شعبية عامة لا يمكن أن تبقى ساكنة على وضع لا يحتمل: استفحال الاحتلال واستشراء الاستيطان والتمادي في تهويد القدس وانتهاك المسجد الأقصى، والإمعان في مفاقمة مشكلة الأسرى.
ومن هنا لم تتوقف للحظة محاولات إعادة بناء خلايا المقاومة أو الاحتجاج والتظاهرات والاصطدام بالحواجز ونقاط الحراسة مع جيش العدو. ومن ثم كانت إرهاصات اندلاع انتفاضة ثالثة تبرز بين الحين والآخر، وكانت تحدث عمليات عفوية في أكثر من مناسبة. بل وصل الأمر بعد إحراق عصابات المستوطنين الفتى محمد أبو خضير في شعفاط إلى أن تتهيّأ القدس والضفة للانتفاض. وبالفعل وقعت صدامات ولكن السلطة في هذه المرّة حركت بعض قيادات فتح إلى شعفاط لتهدئة الوضع. مما أجّل اليوم الموعود الذي لا بدّ منه. وهو اندلاع الانتفاضة.
هذا اليوم عادت إرهاصاته منذ أسبوعين، لتؤكد مرّة أخرى أن استراتيجية الانتفاضة وما يمكن أن يصحبها من عمليات، ولو عفوية، ولو بالسلاح الأبيض، هي الخيار الذي لا بدّ من اللجوء إليه ليس لمواجهة جرائم الاحتلال، وارتكاباته عموماً وانتهاكاته للمسجد الأقصى، خصوصاً، فحسب وإنما أيضاً لتحرير القدس والضفة الغربية وإطلاق كل الأسرى.
ولكن الوصول إلى الانتفاضة الشاملة والدخول في معركة دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، دخولاً مصمماً لا يوقف الانتفاضة إلاّ بتحقيق هدفَيْ تحرير القدس والضفة الغربية، (فضلاً عن إطلاق كل الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة) يتطلب من فصائل المقاومة والحراكات الشبابية وكل النخب المناضلة أو تجعل الانتفاضة الشاملة استراتيجية النضال، فتجعل ديدنها العمل اليومي والدائب كما التعبئة السياسية والروحية والمعنوية، كما الانخراط الكلي بلا تردّد، من أجل الوصول إلى المستوى الانتفاضي الشامل. وهو بالتحديد إنزال الجماهير إلى الشوارع وإغلاق المدن والقرى في وجه العدو، وبإجماع فصائلي وشبابي وشعبي على المواجهة ولو لبضعة أشهر أو سنة من أجل إجبار العدو على “فك الارتباط” وتفكيك المستوطنات من الضفة والقدس كما فعل في قطاع غزة. وبلا قيد أو شرط.
فالجوهر في الانتفاضة الشاملة يجب أن يكون امتلاء الشوارع بالجماهير رجالاً ونساء/ شيوخاً وشباباً وأطفالاً، وتحت شعار واحد وعلم واحد، وبقيادة ميدانية موحدة، من أجل إنهاء الاحتلال ودحره وتفكيك المستوطنات وإطلاق الأسرى. أما ما يمكن أن يصحب هذه الاستراتيجية من عمليات جانبية كما يحدث الآن من دهس وطعن بالسكاكين، أو أخرى فدوره مكمل وقد أثبتت التجربة فعاليته وضرورته ولكن القوّة الحاسمة هي قوّة الشعب كله. وما ينبغي للانتفاضة أن تقتصر على عمليات الشهداء الأبطال.
هذه الاستراتيجية ممكنة التحقيق إذا ما أصبحت استراتيجية فتح وحماس والجهاد والجبهة الشعبية والديمقراطية وكل الفصائل وجميع الحراكات الشبابية.
هذه الاستراتيجية: الانتفاضة الشاملة ليست ممكنة التحقيق والأقدر على كسر إرادة الاحتلال والاستيطان وهزيمتهما فحسب وإنما هي الأكثر جذباً وتحريضاً لدعم الشعب الفلسطيني المنتفض من قبل الجماهير العربية والإسلامية والرأي العام العالمي. هذا الرأي العام العالمي، خاصة الأوروبي والأمريكي المتحفز ليضغط على نتنياهو ويدينه.
وهنا سيسقط بأيدي الأنظمة العربية التي تخلت عن قضية فلسطين أو ابتعدت عنها أو تواطأت عليها، أو انشغلت في صراعاتها الداخلية عنها.
وهنا سيجد نتنياهو وحكومته وقيادة جيشه وأجهزته الأمنية ومجتمعه أنفسهم في المأزق الداخلي أمام الإجماع الشعبي الفلسطيني في معركة “عض على الأصابع”، ويجدون أنفسهم في عزلة عالمية لا يحتملونها. عندئذ لا مفرّ من تراجع نتنياهو وسقوط الاحتلال والاستيطان. وهما شعاران ما ينبغي لأحد أن يجادل عكس ذلك، والحذار من المساومة فالاحتلال والاستيطان يجب أن يرحلا بلا قيد أو شرط وبلا مكافأة.