مقالات مختارة

“مانيفستو بوتين”: انتهاء النقاش الايديولوجي واحتدام الصراع الجيوسياسي د. عصام نعمان

 

أطلق فلاديمير بوتين «مانيفستو» جديداً أمام «منتدى فالداي» في مدينة سوتشي الروسية بتاريخ 22 تشرين الأول 2015. ربما أراده أن يكون بديلاً من «مانيفستو» كارل ماركس الشيوعي الذي نُشر في لندن بتاريخ 21 شباط 1848.

في مستهلّ الـ»مانيفستو»، يتحدّث بوتين عن ظاهرة السلم والحرب في العصر الراهن. يقول إنّ «انتهاء الحرب الباردة أدّى إلى نهاية النقاش الايديولوجي، لكن الجدل الجيوسياسي لم ينتهِ لأنّ لكلّ الدول مصالحها الوطنية والقومية». أضاف: «إنّ تطوّر تاريخ البشرية كانت ترافقه دائماً المنافسة بين الدول والشعوب، وهذا أمر طبيعي ومنطقي».

كان الصراع، بحسب «مانيفستو» ماركس، طبقياً وايديولوجياً بين طبقات المجتمع، فيما الصراع بحسب «مانيفستو» بوتين جيوسياسي بين الدول والشعوب. غير أنّ مضمون الصراع في كلتا الحالين كان على المصالح: مصالح الطبقات المتصارعة بحسب ماركس، ومصالح الدول بحسب بوتين.

صحيح أنّ انتهاء الحرب الباردة، في رأي بوتين، أدّى إلى انحسار النقاش الايديولوجي واحتدام الجدل الجيوسياسي. لكن، هل الصراع الجيوسياسي بين الدول أنهى الصراع الاجتماعي بين الطبقات داخل المجتمعات؟ لا أرى ذلك. فالصراعان ما زالا محتدمين، بدرجات متفاوتة، داخل المجتمعات وبين الدول في كلّ أنحاء العالم.

يلاحظ بوتين: «ما زلنا نرى اليوم محاولات لفرض الهيمنة العالمية بما يؤدّي إلى الإخلال بالتوازن الدولي … ما يعني تزايد النزاعات الحدودية حيث تتصادم مصالح الدول الكبرى أو التحالفات الكبرى». وفي إشارة واضحة إلى الولايات المتحدة، حذّر بوتين من أنّ محاولات فرض الهيمنة تنطوي على مخاطر لجهة انتهاء العمل بمنظومة انتشار الأسلحة التقليدية وتقويض أسس معاهدة عدم الانتشار النووي.

لا يكتفي بوتين بتحذير الولايات المتحدة من الهيمنة بل يقوم بإطلاق تحذير إضافي بقوله: «إنّ الأمر لا يكمن في مواجهة الخطر النووي الوهمي لإيران بل في محاولة الإخلال بالتوازن الاستراتيجي من أجل السيطرة وفرض الإملاءات على الجميع المنافسين السياسيين والحلفاء على حدٍّ سواء وهذا السيناريو خطير للغاية ومضرّ بالجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة».

في الحديث عن العلاقات الاقتصادية الدولية يقول بوتين: «نرى كيف يجري تشكيل تحالفات اقتصادية غير شفافة وبسرّية تامة، وذلك لغرض واضح وهو إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي لتعزيز الهيمنة وفق المعايير الأميركية التجارية والاقتصادية وغيرها. في المقابل، يؤكد بوتين انّ المقاربة الروسية بشأن العلاقات الاقتصادية مختلفة تماماً، مشيراً على سبيل المثال إلى انّ «علاقاتنا مع شركائنا قد أتت بناء على المبادرة الصينية في إطار مشروع طريق الحرير، ولدينا مساواة كاملة في الحقوق داخل «بريكس» وغيره من المحافل الاقتصادية الإقليمية، بعيداً من فكرة الحرب التجارية».

تحتلّ الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط حيّزاً كبيراً في «مانيفستو» بوتين. يقول: «نشهد حالياً التطورات الجارية في الشرق الأوسط حيث تراكمت قضايا وخلافات عرقية ودينية واجتماعية واقتصادية. لكن الأخطر انّ ثمة محاولات جرت من الخارج لإعادة تشكيل هذه المنطقة أدّت إلى انفجار حقيقي، وتدميرٍ للدول، وصعودٍ للإرهاب، وانتقال المخاطر إلى العالم بأسره». ولا يُغفل الرئيس الروسي تحديد مكمن الخطر الأكبر فيقول إنّ «التنظيم الإرهابي المسمّى «الدولة الإسلامية» قد احتلّ أراضي شاسعة، فكيف تمكّن من ذلك؟ لو استطاعت تلك العصابات الإرهابية ان تسيطر على دمشق أو بغداد، لكانت تحوّلت إلى دول حقيقية، مهدّدةً العالم أجمع».

يشدّد بوتين في ملاحظة لافتة وهادفة إلى انه «لا يمكن التلاعب بالكلمات وتقسيم الإرهابيين بين جيّدين وسيّئين، ولا يمكن القبول بآراء بعض الخبراء بوجود إرهابيّين معتدلين». يتساءل ساخراً: «هل هؤلاء يقطعون الرؤوس بشكل معتدل؟».

يلاحظ الرئيس الروسي أنّ الأوضاع كانت تتدهور، والبنية الإرهابية تتنامى، وعدد المسلحين يزداد، والأسلحة تُسلّم إلى ما يُسمّى «المعارضة المعتدلة» وتجد طريقها إلى أيدي الإرهابيّين، لا بل إنّ «فصائل كاملة كانت تنتقل إلى صفوف الإرهاب». يتساءل: لماذا لم تأتِ جهود شركائنا الأميركيّين والغربيّين وحلفائهم في حربهم ضدّ «الدولة الإسلامية» بنتائج ملموسة؟ الجواب واضح: «الولايات المتحدة تمتلك قدرات عسكرية ضخمة، لكن من الصعب القيام بلعبة مزدوجة وهي محاربة الإرهاب من جهة، واستخدام جزء من الإرهابيّين لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط وإسقاط الأنظمة غير المرغوب فيها من جهة أخرى».

الى ذلك، يصف بوتين إطلاقه عملية عسكرية في سورية بأنها «عملية شرعية تماماً، هدفها الوحيد إعادة السلام إلى هذا البلد … ومساعدة السلطات السورية في إطلاق التسوية السياسية والقضاء على الإرهاب … لأنّ تدمير الدولة السورية يؤدّي إلى تنشيط العمل الإرهابي، ولذلك فإنّ ثمة ضرورة لتعزيز المؤسسات الحكومية». غير انّ الرئيس الروسي يستدرك سريعاً بقوله: «إنّ الانتصار العسكري على الإرهابيّين لن يحلّ كلّ القضايا، لكنه سيهيّئ الظروف لإطلاق عملية سياسية بمشاركة جميع القوى الوطنية السورية، لأنّ السوريّين وحدهم هم من يقرّرون مصيرهم بمشاركة دولية بنّاءة بعيداً من أيّ إملاءات أو تهديدات أو ابتزاز».

حسناً، لكن مَن يحدّد القوى الوطنية الصالحة للمشاركة في العملية السياسية المرتجاة؟ بوتين لا يتطرّق إلى هذا الموضوع، لكنه يكشف في مداخلة لاحقة أمام «منتدى فالداي» عن بعض ما دار في اللقاء الذي جمعه بالرئيس بشار الأسد يوم الثلاثاء الماضي اذ سأله الرئيس الروسي: «ما رأيك لو وُجدت الآن في سورية معارضة مسلحة، لكنها مع ذلك مستعدّة حقاً لمقاومة الإرهابيين و«الدولة الإسلامية»؟ وما سيكون رأيك لو كان لك أن تساند جهودهم في قتال «الدولة الإسلامية» بالطريقة نفسها التي نساند بها الجيش السوري؟» فردّ الأسد قائلاً: سأنظر إلى ذلك باستحسان».

لن تستحسن الدول والأطراف الأخرى الناهضة بالحرب في سورية وعليها جوابَ الأسد لأنّ بعضها يشترط أن يكون دوره في الفترة الانتقالية محدّداً بأشهر وأسابيع معدودة، وبعضهم الآخر يرفض ان يكون له دور البتة! والى ان تتوصّل الأطراف إلى حلّ لهذه المشكلة المستعصية، تبقى العملية السياسية مجرد مطلبٍ ورجاء، بينما تتأجّج نيران الحرب وتتصاعد وتستنزف الجميع، ولا سيما المدنيّين.

في «مانيفستو» بوتين أفكار قديمة وأخرى جديدة. غير أنّ أكثرها جِدّة ووعداً وعدالة تلك الداعية إلى «وضع خرائط طريق لإعادة إعمار منطقة الشرق الاوسط، بما يشمل بناء المدارس والمستشفيات والمساكن والبنية التحتية لكونها الوسيلة الوحيدة الكفيلة بوقف التدفق الضخم للاجئين إلى أوروبا وعودة من غادروا».

هذه الدعوة الإنسانية التاريخية تستوجب اتفاقاً ومبادرة بين جميع المشاركين في المآسي الجاري صنعها للعراق وسورية ولبنان واليمن، وجميع المعنيين بها والقادرين على تضميد جراحها. أجل، جميع مَن شاركوا في صنع المآسي، كما جميع القادرين ممّن دعوا إلى الصبر والصمود

وزير سابق

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى