الانتفاضة … وسكاكين الوعي
غالب قنديل
تمثل انتفاضة الشباب بداية مرحلة جديد من الكفاح الشعبي الفلسطيني في جميع أرجاء الوطن المحتل ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني وهي تطلق ديناميات جديدة في الواقع السياسي الذي تميز بركود شامل بلغ حد التحجر والتكيف مع إرادة المستعمرين .
أولا من الثابت وفقا للتقارير الصهيونية والمعطيات الميدانية ان ثورة السكاكين والحجارة انطلقت بمبادرات فجرها جيل جديد من الشباب الفلسطيني الرافض للاحتلال وقد دفعته إلى ذلك حيوية التناقض الرئيسي بين الشعب الفلسطيني والاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين وحيث تتلاقى مظاهر العسف والقمع والتمييز العنصري والقهر الاقتصادي الاجتماعي العنيف على توليد نزعة المقاومة من خارج الأطر التقليدية وبالتالي فعفوية الانتفاضة بهذا المعنى وضعت اندلاعها خارج أي تدبير قيادي او إطار سياسي وتنظيمي فصائلي وهو ما لايعني أبدا انها لا تحمل طابعها السياسي الثوري الذي يتجسد بوعي جذري لعقم جميع الرهانات والمشاريع السياسية المنتمية لثقافة التسوية بنسختيها الحماسية والفتحاوية والملخصة بفكرتين يروج لهما كل من رئيس السلطة محود عباس ورئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل :
1- فكرة الحكم الذاتي تحت الاحتلال بسلطة مشهدية تابعة لمنظومة الهيمنة الاستعمارية الصهيوينة في المنطقة ومتكيفة معها ترتبط بالاحتلال عبر التنسيق الأمني وتحيا بخيوط التمويل الخليجي الغربي الخاضع لوصاية الكيان الغاصب وتتكفل بالتدمير المتواصل لمقومات الحق التاريخي الفلسطيني من خلال ما يسمى بعملية السلام تحت الرعاية الأميركية وبما تبقى من جثة اتفاق أوسلو المتحللة.
2- فكرة الهدنة الطويلة بين قطاع غزة والكيان الغاصب عبر تحويل وقف القتال إلى حالة مستدامة برعاية تركية قطرية تتيح إدماج قيادة حماس السياسية في منظومة الهيمنة على صعيد المنطقة وبشكل يفسح المجال بالنهاية لتكوين فدرالية فلسطينية تجمع سلطة رام الله وحكومة غزة في إطار يقوم على الاعتراف بكيان العدو وبالتالي قابل جوهريا للتخلي عن فلسطينيي 48 وعن حق عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه .
ثانيا شمول الانتفاضة للأقاليم الفلسطينية الثلاثة : الضفة والقطاع وفلسطين 48 أسقط خطوط الفصل الافتراضية التي انتجها نهج الخضوع التسووي للكيان الصهيوني وهو النهج الذي اجهض سلسلة من الانتفاضات والهبات الفلسطينية طيلة العقود الأربعة الماضية عبر توظيفها في اللهاث خلف تفاوض عقيم سري وعلني تحت رعاية الولايات المتحدة وحكومات الرجعية العربية وكانت نتائجه دائما لصالح العدو الصهيوني وعلى حساب قضية التحرر الوطني الفلسطيني .
الشباب الفلسطيني الثائر يرسخ حقيقتين حاسمتين في مسار النضال الفلسطيني ستفرضان تحولا نوعيا في الوعي الشعبي وهما :
1- سقوط وهم الدولتين المبني على الاعتراف بالدولة العبرية وإسقاط حق العودة مقابل التكيف في جغرافيا إدارية اقتصادية يقبل الكيان الصهيوني بالمساكنة معها منزوعة الأسنان سواء بخيار أبو مازن الرافض لأي مقاومة مسلحة ضد الاحتلال ام بخيار خالد مشعل المسمى هدنة مديدة وحيث لا سيادة وطنية فلسطينية بل وصاية وترتيبات امنية مع العدو وتثبيت لخارطة الاستيطان الصهيوني على الأرض الفلسطينية المحتلة .
2- ترنح وهم المواطنة الكاذب والمزعوم في الداخل الفلسطيني على أرض 48 وسقوطه في وعي فتيان ثورة السكاكين الذين انبرى منهم مقاومون شجعان يسددون الضربات لقوات الاحتلال وطلع من صفوفهم بطل عملية بئر سبع الفدائي الشهيد مهند العقبي ابن النقب حيث بلغ العسف الصهيوني أعلى درجاته في السنوات الأخيرة بهدم القرى واقتلاع السكان الأصليين من الشعب العربي الفلسطيني وتشريدهم ومصادرة أراضيهم .
ثالثا يتركز الجهد الأميركي الصهيوني على محاولة احتواء الانتفاضة ووقفها بالتعاون مع القيادات الفلسطينية ولهذه المهمة يتحرك وزير الخارجية الأميركية جون كيري لمساعدة الصهاينة في الخروج من المأزق الخطير الذي أوقعهم فيه شباب الانتفاضة الذين تحولوا إلى نواة حركة مقاومة جديدة يستعصي إخضاعها إلى حد الاستحالة .
ليس بمقدور كيري وأي من القيادات الفلسطينية طمس التناقض الرئيسي المفجر للانتفاضة فهو بالأصل وجود الكيان الصهيوني وحتى لو تبين ان بمقدورهم الحد من تقدم هذه السيرورة الثورية عبر الالتفاف السياسي بمعونة قيادتي فتح وحماس والحكومات الرجعية العربية لكن الأكيد أن الحركة الثورية الفتية لو خمدت او انكفأت فسوف تلتهب بعد حين وسوف تتآكل ترتيبات التنسيق الأمني والخطوات السياسية التفاوضية المعدة لتخدير المزاج الشعبي كما سوف تستهلك الأموال والعطايا التي يتلمظ لالتقاطها القادة المتورطون وهي محكومة أيضا بشح الموارد وتعدد الأولويات.
تحدث هنري كيسنغر عن زلزال في الشرق الأوسط يهدد منظومة الهيمنة الاستعمارية التي تحمل بصمته منذ اتفاقية كمب ديفيد وقد سميت العقود المنصرمة التي يتحسر عليها وزير الخارجية الأسبق بالحقبة السعودية وتميزت بسلسلة اتفاقات العار مع العدو وبالصمود السوري وبانتصار المقاومة في لبنان وهاهي الانتفاضة الفلسطينية تولد المخاض الذي يبلور الشريك الفلسطيني لمحور المقاومة وسيقود إلى سقوط مشروع الدولتين وقبر نظريات التسوية ورهانات التصفية.