وحدَه شعب فلسطين يصنع القرار د. عدنان منصور
مرة ثالثة تنتفض فلسطين وتثور… وينتفض شعبها الأبي بكلّ بسالة وشجاعة فاقت كلّ المقاييس، ليقول لقادته وتنظيماته وحركاته وسلطته إنّ القرار له وحده وعنده… قرار لا يُستجدى ولا يدخل في سوق المزادات السياسية العربية والإقليمية والدولية، قرار فلسطين يصنعه ويرسمه المناضلون المقاومون الشرفاء والأحرار والشهداء أبناء الأرض، ولا يصنعه تجار السياسة من المتواطئين المتخاذلين ومقاولي القضية والمنتفعين والمأجورين والعملاء الذين تاجروا بفلسطين وساوموا عليها وتآمروا على حقوق الشعب الفلسطيني، ملوكاً وحكاماً وقادة وزعماء وسياسيين وأحزاباً منذ قيام دولة الإرهاب «الإسرائيلية» العام 1948 وحتى اليوم.
شعب فلسطين يقول للعالم اليوم، ولسماسرة القضية الفلسطينية، إنّ حرية الفلسطينيين واستقلال فلسطين لا يُستجدى ولا يتحقق في فنادق وارسو أو واشنطن أو كامب دايفيد أو واي ريفر… ولا في شرم الشيخ أو اسطنبول. طريق التحرير واحد علمتنا إياه الشعوب الحية. يتحقق بالمقاومة ويُفرض فرضاً على العدو. آن لنا أن نفهم وندرك ونعي الحقيقة التي لا يريد أن يأخذ بها المتواطئون والمتآمرون الدائمون على القضية، أنّ الاستقلال لا يؤخذ إلا غلاباً. هكذا فعل الفيتناميون مع الفرنسيين في «ديان بيان فو»، وهكذا فعلوا أيضاً مع الأميركيين لينهوا وجودهم في سايغون، والجزائريون مع قوات الاحتلال الفرنسي، واليمنيون في جنوب اليمن مع البريطانيين، والمقاومون الأحرار في لبنان الذين أذهلوا العالم العام 2006 في حربهم ضد المعتدين الصهاينة.
آن الأوان للسلطة الفلسطينية ومَن يدور في فلك سياساتها وتوجّهاتها أن تعلم أنّ العدو الذي استولى على فلسطين العام 1948، بعد تطهير، لا يفهم إلا لغة واحدة، هي لغة المقاومة، وأنّ الدبلوماسية والمفاوضات والاجتماعات والمؤتمرات والوعود الكاذبة والاتفاقيات المشبوهة التي ترعاها العواصم الكبرى في الغرب ليست إلا أوهاماً وصكوكاً وحبراً على ورق لإنهاء القضية وإزاحة الفلسطينيين نهائياً عن خارطة فلسطين وأرضها وتاريخها.
إنّ دولة أدمنت على القتل والإجرام وعلى القضم والضمّ لن تعطي الفلسطينيين ما يريدونه. لقد قالها العدو صراحة ومراراً، إلا أنّ هناك من لا يريد أن يفهم من العرب فبعد توقيع اتفاقية كامب دايفيد وأثناء حفل العشاء الختامي الذي ضمّ سايروس فانس وزير الخارجية الأميركي ومحمد ابراهيم كامل وزير الخارجية المصري، ألقى رئيس وزراء «إسرائيل» مناحيم بيغن خطاباً قال فيه: إنّ العرب تمتّعوا بحق تقرير المصير في إحدى وعشرين دولة، وهم يريدون أن ينشئوا دولة جديدة بتقرير المصير ليقضوا على مصيرنا. إنني أقولها صريحة عالية لا لتقسيم القدس… لا للانسحاب إلى حدود 1967 لا لحق تقرير مصير الإرهابيين…
على ماذا تراهن السلطة الفلسطينية وداعموها من فلسطينيين وعرب وأجانب، عندما يقول نتنياهو «إنه كي تستطيع «إسرائيل» الدفاع عن مدنها، يجب عليها أن تحتفظ بالسيطرة العسكرية على كلّ منطقة الضفة الغربية»… وأنّ العرب يتوجب عليهم «أن يتنازلوا عن أراضٍ لـ«إسرائيل»، وأنّ وضع «إسرائيل» داخل حدود ما قبل 1967 لا يمكن القبول به»؟
إنّ سياسة القتل والإرهاب والترهيب والتمييز العنصري ومصادرة الأرض لن توفر الاستمرار للدولة «الإسرائيلية»… إنّ دولة تربط حياتها ووجودها ومستقبلها بسياسة القتل لا تستطيع الاستمرار وهي تستقي مفاهيمها من أيديولوجيا متطرفة متحجّرة عبّر عنها البروفسورArmon Soffer آرمون صوفير الذي أدلى بحديث إلى صحيفة «جيروزاليم بوست» في 10 أيار 2004 جاء فيه: «في ما لو أردنا أن نبقى على قيد الحياة يتوجب علينا أن نقتل ونقتل ونقتل… إذا لم نقتل في كلّ وقت وفي كلّ يوم ينتهي وجودنا».
سياسة القتل والحروب «الإسرائيلية» واستحضار المحرقة أثارها ابراهام بورغ رئيس الكنيست الأسبق، بقوله «إنّ حضور الموت الذي لا يتوقف في حياتنا، المرتبط بحروب إسرائيل لا يؤدّي إلا إلى الإكثار من المجازر والدمار والإبادة التي يتلقاها شعبنا»، ولهذا يتابع بورغ في مؤلفه «Vaincere Hitler «، فإنّ الأموات في هذا البلد لا يرقدون أبداً في سلام، إنهم دائماً نشطون، دائماً حاضرون، دائماً ملازمون لوجودنا التعيس. المحرقة والحروب والموت واستحضار للذاكرة الأبدية، لقد ربحنا كلّ الحروب، ومع ذلك نحتفظ بشعور عميق بالخسارة… إنّ دولة «إسرائيل» أصبحت الناطق الرسمي باسم الأموات، بلد يتحدّث باسم غير الموجودين أكثر بكثير مما يتحدّث باسم الباقين. إنّ الحرب لم تعد استثناء لنا بل أصبحت قانوناً. طريقة عيشنا طريقة حرب مقابل الجميع، أعداء وأصدقاء على السواء، في الداخل كما في الخارج. أمام هذه الطريقة المحزنة نتيقّن أنّ «الإسرائيليين» لا يفهمون إلا لغة القوة، هذه العقلية التي تعكس بداية العنجهية «الإسرائيلية» في وجه الهزائم العربية أصبحت المبرّر لأفعال عديدة ومفاهيم سياسية غير مقبول بها في عالم عادل. كلّ دولة بحاجة إلى قوة عسكرية معقولة، ولكن أيضاً إلى سياسات إنسانية تكمل هذه القوة، إلا أنه لدينا قوة عسكرية ذات وزن دون منافسين لها، بمعزل عن إرادة غير إرادتنا في العمل على نصر قوتنا العسكرية. لقد كرّسنا عدم العدالة كنظام من دون أن نفهم شيئاً آخر سوى لغة القوة…».
لقد ظنّ الصهاينة، أنه مع الجيل الفلسطيني الثاني، سترحل فلسطين ويرحل معها شعبها، لكن ما سطّره الفلسطينيون في سجل تاريخهم الجهادي هو أنّ الجيل الثاني كان أصلب عوداً وأكثر تمسكاً بفلسطين من الجيل الذي شهد النكسة. وأنّ الجيل الثالث حفر فلسطين في جسده وروحه وعقله ووجدانه وأمامه حقيقة واحدة: وحدَها المقاومة تستطيع أن تفرض على الطغاة إرادة شعب فلسطين واستعادة ما خسره على مدى قرن من الزمن.
(البناء)