القدس الكاملة: نحمايا شترسلر
اعتقدت أنني تشوشت، ولم أسمع جيدا. فالوطنيون العظماء، بنيامين نتنياهو، زئيف الكين وجلعاد اردان، ممن لا يستلقون على أسرتهم في الليل قبل أن يصلوا لسلامة القدس الكاملة، الكبرى والموحدة، يقترحون الان بترها، تقسيمها واعادتها 48 سنة إلى الوراء، بمعونة 180 مكعب اسمنتي ومحطات فحص تنصب في مداخل الاحياء العربية: نتنياهو يقسم القدس.
يدور الحديث عن طليعة. في المدينة التي هي المستقبل. ما يحصل هناك اليوم، سيحصل لنا جميعنا غدا. وهي النموذج المصغر لكل ما يمر علينا في الـ 48 سنة الاخيرة منذ حرب الايام الستة: انتصار، احتلال، نشوى، تطرف وجنون.
فور انتهاء حرب الايام الستة عين موشيه دايان لجنة لترسيم حدود القدس. لم يعين خبراء في تخطيط المدن، الاراضي الاقليمية والجغرافيا، بل ثلاثة الوية لم يكونوا سوى نواب الرب: حاييم هرتسوغ، شلومو لاهط ورحبعام زئيفي. وقد رسموا خطة مجنونة في أعقابها ضم إلى القدس ليس فقط البلدة القديمة داخل الاسوار، وليس فقط المدينة الاردنية خارج الاسوار (6 الاف دونم) بل 64 الف دونم اخرى ـ اراض واسعة من الضفة الغربية لم تكن في أي مرة في التاريخ جزءاً من القدس. ويدور الحديث عن 28 قرية يبلغ عدد سكانها اليوم 330 الف نسمة ـ حيث لكلهم بطاقات هوية زرقاء وهم يشكلون 35 في المئة من سكان المدينة ـ وصفة مؤكدة للانفار.
التمييز بحقهم يصرخ إلى السماء. الاحياء العربية القريبة من غربي المدينة بائسة ومهملة عقب عدم تخصيص المقدرات. ولكن هذا لا شيء مقارنة بالاحياء البعيدة التي تدار بلا حكم، بلا رقابة بلدية، بلا شرطة، بلا اخلاء قمامة، بلا شبكة مجاري، بلا طرق وبلا قوانين بناء.
من ناحية نتنياهو، ألكين وأردان هذا على ما يرام. فالعرب هم على أي حال ليسوا بشرا، وليقولوا شكرا على اننا نسمح لهم بالتنفس. بل ان الثلاثة يشرحون موجة العمليات الاخيرة بـ«التحريض». من ناحيتهم ليس لها هي سبب.
هذا تحريض، في أن اوري ارئيل ورفاقه الهاذين حجوا بشكل تظاهري إلى الحرم، كي يفجروا بعض الاستقرار الذي كان لا يزال باقيا. هذا تحريض، أنه في البلدة القديمة استوطنت 15 (!) جمعية مسيحانية تعنى بالتدرب على تقديم القرابين في الهيكل الذي سيبنى «بسرعة في عصرنا» على خرائب المسجد الاقصى. هذا تحريض، في أن جمعية «عطيرت كوهانيم» تنغص حياة سكان الحي الإسلامي، وتمول عشرات العائلات التي استوطنت في قلب الحي. هذا تحريض، في أن نطاقات محمية لليهود في اقصى التطرف اقيمت في قلب الاحياء العربية في شرق المدينة. هذا تحريض في أن اولئك اليهود يمسون ويهينون كل يوم آباء وامهات اولئك الشباب الذين يعيشون في يأس مطلق، في فقر، في اهمال وتحت القمع، بلا مستقبل وبلا أمل في الحصول على دولة مستقلة خاصة بهم، تعيد لهم كرامتهم، الامر الاهم لهم من الخبز ومن الحياة المهنية.
حقيقة أن الحديث لا يدور عن تنظيمات مرتبة، بل عن منفذين منفردين للعمليات ممن أخذوا سكينا او مفكا وخرجوا في حملة ثأر وانتحار، تثبت شدة اليأس الذي فيه يعيشون ـ ويموتون. ولكن نتنياهو يتحدث عن «التحريض». فقد بات خبيرا في «ادارة النزاع» التي هي الاسم السري لتبديد كل أمل وكل محاولة لخوض مفاوضات مع ابو مازن. هكذا يمكنه أن يواصل البناء في المناطق في ظل ادارة حملة اكاذيب حيال الأمريكيين. وهو ببساطة غير مستعد لان يدفع ثمن السلام: التنازل عن اراض في الضفة وتقسيم القدس ـ الاحياء العربية للعرب، والاحياء اليهودية لليهود. وكل شيء انطلاقا من الايمان بان الفلسطينيين سيسكتون، سيبتلعون وسيعتادون، إذ مهما يكن من أمر فهم ليسوا حقا بني بشر.
غير أن الان تفجر له البالون الكبير في الوجه، وهو، في رد هستيري كعادته، يقسم القدس.
هآرتس