مقالات مختارة

حرب باردة جديدة . . . . بدأت د . فايز رشيد

 

أوباما يهدد روسيا بالعزلة بسبب أوكرانيا، قائلاً: “إذا واصل بوتين انتهاك القانون الدولي وانتهاك الاتفاق الذي تعهد الالتزام به قبل أسابيع، فإن العزلة التي تواجهها روسيا ستستمر” . ديفيد كاميرون يهدد قائلاً: “سنواصل الضغط على روسيا، وإذا واصلت زعزعة الاستقرار في أوكرانيا، فسنفرض عليها عقوبات” . الرئيس الفرنسي هولاند كان أقل حدة في تهديده: “إن فرنسا تتخذ موقفاً مزدوجاً هو الحزم عند حدوث مخالفات للقانون الدولي . . . وموقف الحوار”.

انجيلا ميركل من سدني صرحت قائلة: “من المهم انتهاز كل فرصة للتحاور، وهناك تقارب في وجهات النظر بين الأوروبيين حول أوكرانيا وروسيا” . أجواء قمة العشرين التي انعقدت في بريزبين بأستراليا، مثّلت سباقاً للهجوم على روسيا ورئيسها، وهو ما حدا ببوتين إلى مغادرة القمة قبل انتهائها . الغرب يعتبر أن اعتراف روسيا بالانتخابات الرئاسية والتشريعية التي جرت في منطقة الدونباس, في جنوب شرق أوكرانيا (دونيتسك ولوغانسك)، يشجع سكان هذه المنطقة (أوكرانيون من أصول روسية) على الانفصال، هذا في الوقت الذي يؤكد فيه هؤلاء أنهم يريدون شكلاً فيدرالياً للوحدة مع أوكرانيا، من دون الانفصال عنها . الرئيس الأوكراني الذي يعتقد بأن منطقة الدونباس سائرة باتجاه التقسيم (ولذلك يسمي سكانها بالانفصاليين)، وبمساعدة من روسيا، قام وفي خطوة تصعيدية، بقطع كافة الامدادات والخدمات التي عادة تقدمها مطلق دولة لمواطنيها . واشنطن والناتو وعواصم أخرى تريد ضم أوكرانيا للناتو، ونصب صواريخ بعيدة المدى على أراضيها، وموجّهة نحو روسيا، وهذا ما لم يسمح به بوتين ولن يفعل، وفي تصريحاته أكّد ويؤكد أن روسيا ستقف ضد هذه الخطوة، وأنها ستستخدم كافة إمكاناتها وطاقاتها للدفاع عن مصالحها .

لقد عاشت الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية، وانتهاء الحرب الباردة، مرحلة ذهبية في عالم تميز بالقطب الواحد، وبقيادة أمريكا للساحة الدولية، ومن ثم وبعد مضي عقدين من الزمن، ظهرت روسيا والصين كدولتين كبيرتين ومؤثرتين إلى الحد الذي يمكن القول فيه، إن قطباً عالمياً آخر بدأ في التشكل في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها.

أصحاب الرؤوس الحامية في كل من واشنطن وتل أبيب وعموم العواصم الغربية لا يريدون الاعتراف بهذا الواقع الجديد الذي يفرض حقائقه واقعاً على الأرض .إحدى هذه الحقائق أن الولايات المتحدة لم تعد اللاعب الوحيد على الساحة الدولية، فروسيا والصين (وبخاصة الأولى) لهما وجهات نظر مغايرة لما تراه واشنطن وتحدده من مواقف سياسية، وعلى سبيل المثال لا الحصر: أوكرانيا، والمشروع النووي الإيراني وكذلك حقيقة: أن كوريا الشمالية أصبحت لاعباً نووياً، بحيث بات صعباً توجيه ضربة عسكرية إليها من قبل الولايات المتحدة ودول المعسكر الغربي .

الولايات المتحدة وحلفاؤها عموماً يتعاملون مع روسيا باعتبارها “دولة صغيرة مارقة”، ومع بوتين باعتباره (غرّاً )، لقد شبّه الرئيس أوباما، بوتين منذ فترة “بأنه التلميذ الكسول الذي يجلس في آخر الفصل غير عابئ بما يجري حوله”، كان ذلك في أحد مؤتمراته الصحفية، على هامش قمة العشرين السابقة التي جرت في إيرلندا الشمالية . تصوروا ماذا يقول رئيس دولة عظمى عن رئيس دولة عظمى وريثة الاتحاد السوفييتي . . إنها العنجهية الأمريكية بكل صلفها .

العين بالعين والسن بالسن، وسياسة فرض الوقائع، هذا ما تطبقه روسيا في عهد بوتين . عقوبات أمريكية وأوروبية ضد مسؤولين روس وأوكرانيين مؤيدين للسياسات الروسية في أوكرانيا . . .قابلها بوتين بعقوبات ضد مسؤولين أمريكيين . روسيا في عهد بوتين ومن قبله ميدفيديف ليست روسيا يلتسين الضعيفة المهلهلة الفقيرة التي كانت بحاجة إلى دعم أمريكي-أوروبي! بوتين أكّد مرات عديدة، بأن روسيا قوية باقتصادها وبسياستها الخارجية، وهي تقف موقف الندّية للولايات المتحدة والأوروبيين (الشركاء الغربيين) وفقاً لتسمية بوتين لهم .

بسياساته، وضع الرئيس الروسي حداً للأحادية القطبية، وهو الذي تحدث مراراً عن ضرورة “التعددية القطبية” كان أبرزها خطابه في مؤتمر الأمن في ميونخ في عام ،2007 وكان يستعد حينها للانتقال لمنصب رئيس الوزراء في عهد ميدفيديف . استمرت السياسة الروسية بكافة تفاصيلها لكن مع خطاب ميدفيديف أكثر ليونة، إلى أن عاد بوتين إلى الرئاسة ليعود الألق والبريق إلى خطواته السياسية بمقدار أكبر مما كان عليه في فترتي رئاسته الأولى .

لقد ابتدأت مجابهة بوتين بعد فترة قصيرة نسبياً من فترة رئاسته الأولى . كان في البداية منشدّاً إلى تصفية حكم المافيات في روسيا، وإلى ضبط الأمن وفرض سلطة الدولة على كافة بقاعها المتسعة، وإعادة الاقتصاد الروسي إلى حيويته وأوضاعه الطبيعية، واستعادة مؤسسات القطاع العام التي خصخصها يلتسين مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فقام بفرض سلطة الدولة عليها، وصادر أموال العديدين من المليارديرات(الأغنياء الجدد ومعظمهم تابعون للحركة الصهيونية) فوضع بعضهم في السجون، وهرب آخرون من روسيا بعد أن استقامت ظروف الفيدرالية الروسية .

أولى بوتين الأهمية الكبرى لسياسات روسيا الخارجية ومجابهة عالم القطب الواحد .وأبرز خطوة قام بها على طريق هذه المجابهة هي الحرب الروسية-الجورجية في عام 2008 حين قام بالتدخل لحماية الروس في تلك الجمهورية .

في فترة رئاسته الثانية التي ابتدأت مع مجئيه إلى السلطة في عام 2012 صاعدت روسيا من مجابهتها للغرب وكانت الخطوة الأبرز (حتى اللحظة) في عناوين هذه المجابهة هي: استعادة شبه جزيرة القرم، بعد أن كان الرئيس خروتشوف قد منحها(بقرار فردي صادق عليه السوفييت الأعلى آنذاك) إلى أوكرانيا فهو مثلما يقول الروس يعشق أوكرانيا .

قبل عودة بوتين إلى الرئاسة، في السابع من مايو/ أيار الماضي، انشغلت أجهزة الإعلام الغربية وبخاصة الأمريكية: بالتركيز على الداخل الروسي وبالادعاء، أن إعادة تنصيبه ستحمل معها خطراً على الحريات في الفيدرالية الروسية .

المعارضة الداخلية كالت هذه الاتهامات للرئيس، الأمر الذي يعني وجود تنسيق ما بين الطرفين، وبخاصة ومثلما يقول مراقبون كثيرون: بأن المنظمات غير الحكومية التي تتلقى دعماً من الخارج، انتشرت في روسيا كالنار في الهشيم .

جملة القول، إن الحرب الباردة بدأت فعلياً من جديد ولكن بمواصفات جديدة غير تلك التي كانت إبان العهد السوفييتي، وان لهذا الواقع الجديد بصماته وتداعياته على الساحة الدولية .

(الخليج)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى