مقالات مختارة

أوروبا تتخبط في المساومة التركية: روسيا جعلت المنطقة الآمنة سراباً! وسيم ابراهيم

 

يقف الأوروبيون شبه عاجزين عن التعامل مع تدفقات سيل اللاجئين. لا حلول في اليد، ولا تلك التي على الشجرة يمكن قطفها. المفاوضات مع تركيا، لإقناعها بصد التدفقات من حدودها، اصطدمت بالخطوط السياسية الحمراء للجميع. الأثمان التي تطلبها أنقرة أعلى من أن يمكن للأوروبيين دفعها، وتلك الممكنة تمنعها حساسية دول أوروبية من الجار التركي. القيادة الالمانية عالقة، وفرنسا لا تريد إنجازها بثمن لا تقبله سياسياً. بعضهم بات يقول إنه في غياب أفق آخر، حان الوقت لاتخاذ مبادرات سياسية «شجاعة» تجاه الأزمة السورية.

بعد أسابيع من الأخذ والرد، وقف رئيس المجلس الاوروبي دونالد توسك معلناً أن من يفكر في إنشاء منطقة آمنة شمالي سوريا، من الأفضل له نسيان ذلك. إنها القضية الرئيسية التي طلبت أنقرة تأييدها، كشرط للتعاون في إيقاف سيل اللاجئين المستمر في التدفق عبر حدودها إلى دول التكتل. هكذا، بات واضحاً أن القضية أصبحت خارج المساومة.

سابقاً، أمكن استنتاج تلك الخلاصة، لكنها المرة الأولى التي ترد فيها على لسان من يكاد يحقق رقماً قياسياً في الاجتماع بالمسؤولين الأتراك. قابلهم توسك هذا الشهر في أنقرة ونيويورك وبروكسل، وفي كل مكان لم يتوقفوا عن طرح الموضوع. كلمات توسك، خلال القمة الأوروبية، كانت واضحة بما يكفي حينما قال: «ليس لدي أي وهم حول أن فكرة المنطقة الآمنة شمالي سوريا هي مشروع بات الآن أكثر صعوبة بكثير مما كان عليه قبل أسابيع، فتحرك الجانب الروسي كان واضحاً بأنه ضد هذه الفكرة»، قبل ان يضيف أنه خلال التفاوض مع الأتراك «أنا مستعد للتركيز على هدف أكثر نفعية وواقعية من (إقامة) منطقة آمنة اليوم».

رئيس الوزراء الهولندي مارك روتا حاول شرح القضية بديبلوماسية، لكنه لم يستطع منع نفسه من الوصول إلى النتيجة ذاتها. قال إن الحديث عن منطقة آمنة يستوجب أن يوضح بدقّة «موقعها تماماً والشكل الذي ستأخذه»، لافتاً إلى أن التدخل الروسي جعلها «أكثر تعقيداً». بدا واضحاً من كلامه ضيق الخيارات لاحتواء «أزمة اللاجئين»، وإصرار أنقرة على خيارها المفضل. إذاً، ما رأيه؟ رد بالقول «لا شيء يمكن استبعاده، لكنني لا أرى أنه (خيار المنطقة الآمنة) يعمل».

ما بدت أنها أثمان «نفعية وواقعية»، كما قال توسك، لم تبقَ كذلك. الحديث كان يدور حول إمكانية منح تركيا اتفاقية السفر من دون تأشيرة. فمن جهة، هي في متناول الأوروبيين، ومن جهة أخرى سيقدمها حزب «العدالة والتنمية» باعتبارها «إنجازاً تاريخياً» للأتراك قبل أسبوعين تقريباً من الانتخابات العامة. لكن باريس أكدت أن هذا الثمن غير مقبول لعقد الصفقة مع الأتراك، بغض النظر عن تقديرها لحاجة ألمانيا لها.

الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قال إن مفاوضات اتفاقية الاعفاء من «الفيزا» تحتاج «شروطاً كثيرة»، لذلك لا يمكن إلا التعامل معها بـ«تريث» مبدياً اعتراضه الصريح على مقايضة كهذه، وأكد أن «فرنسا مع دول أخرى ستكون حذرة جداً للتأكد من أن هذه الشروط سيتم احترامها».

هذه التعقيدات ليست أخباراً جيدة للمستشارة الالمانية أنجيلا ميركل. برلين باتت أكثر ليونة وقابلية لمنح الاتراك اتفاقية الاعفاء من «الفيزا»، بعد سنوات من اعتراضها المبدئي على الفكرة. المسألة تضيف تعقيداً جيداً للزيارة التي ستقوم بها إلى أنقرة بعد أيام. ليس معروفاً ما يمكن أن تقدمه لنظيرها رجب طيب أردوغان، غير أنها تحتاج إغلاق الحدود التركية لأنها تواجه وضعاً داخلياً يزداد صعوبة.

الاوروبيون كانوا أرسلوا وفداً إلى أنقرة للتفاوض. الاخبار التي وصلت من هناك، مع انطلاق اجتماعات القمة، هي التوصل إلى اتفاق «مؤقت». أهم نقاطه منح السلطات التركية مساعدات مالية بحدود ثلاثة مليارات يورو، إضافة إلى تسريع مفاوضات اتفاقية الاعفاء من التأشيرات، مقابل قيام أنقرة بإجراءات ملموسة «للحد من التدفقات» لسيل اللجوء.

خلال قدومها إلى القمة الأوروبية، حاولت ميركل المكابرة على مصاعبها الداخلية. تركت في برلين نقاشاً سياسياً محتدماً، لامس حدّ قول بعض برلمانيي حزبها إنه «إذا لم يكن هنالك حل» لتدفقات اللاجئين، فربما ستجد نفسها أمام «تصويت على الثقة». بعث 126 برلمانياً من حزبها رسالة اعترضوا فيها على سياسة «الحدود المفتوحة»، معتبرين أنها «ليست متوافقة مع القانون الالماني والأوروبي». آلاف اللاجئين يتدفقون كل يوم، وبعض الولايات الالمانية لا تكف عن الشكوى والتذمّر.

ارتدت ميركل ابتسامتها، محاولة إظهار قيادة لا تهتزّ، لتترك كلماتها المسترخية تنساب فوق صورتها بالسترة الخمرية، مع طوق من الأحجار الكبيرة من مشتق اللون حول عنقها. اكتفت بالقول إنه أمام قضايا متشابكة، مثل الحاجة إلى «حماية الحدود الخارجية» وايجاد آلية دائمة لتوزيع اللاجئين، لا يمكن انتظار «نتائج» حاسمة الآن.

لا تملك ميركل عصا سحرية، لكنها لا تكتفي بالفرجة. البرلمان الالماني مرر أمس تعديلات على قانون اللجوء، اعتبرته الحكومة «الأهم والأكثر شمولاً» منذ التسعينيات. القانون الجديد لا يزال يحتاج إلى مصادقة نهائية. أهم بنوده، تمديد فترة الانتظار للاجئين، أي بقاؤهم في المخيمات قبل إتمام ملفات طلبات لجوئهم، إلى ستة أشهر بعدما كانت ثلاثة. ومحاولة تقليل المساعدات المالية التي يحصلون عليها، وهم في مخيمات الاستقبال، قبل قبول ملفاتهم. إضافة إلى ذلك، هناك تشديد سياسة ترحيل من يتم رفضهم، مع تحميلهم غرامات مالية في حال أصروا على عدم المغادرة.

المفاوضات مع تركيا تواجه مشكلة أخرى هي الحساسية الشديدة مع اليونان. الدولتان في حالة خصومة شديدة، تعتمل تحت مجاملات الديبلوماسية والعضوية المشتركة للحلف الأطلسي. وجود تركيا العسكري في قبرص فرض تقسيمها إلى تركية ويونانية. الخلافات حول ذلك، تجعل اليونان إحدى الدول القليلة، في «الأطلسي»، التي تنفق اثنين في المئة من موازنتها على التسليح.

مجاملات الديبلوماسية لم تمنع الرئيس اليوناني من إظهار تحفظاته على تعاون بأي ثمن مع أنقرة. قال بكلمات منتقاة إن بلاده «مستعدة دائما للتعاون مع تركيا»، لكن ليس وفق شروط صفقة أوروبية، وإنما «على أساس القانون الدولي والعملية المتكاملة». أمام الاستعصاءات الواضحة، في اتجاهات عديدة، وجه الزعيم اليوناني رسالة تقصّدت الغموض رغم أن مضمونها لم يعد خافياً. قال إنه «قبل كل شيء، أعتقد أن الآن هو الوقت (المناسب) لأخذ مبادرات شجاعة لحل الأزمة السورية».

الاوروبيون باتوا يقبلون بدور للرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، وهم الآن يواصلون وساطة متعددة الرؤوس لجمع الاقليميين والدوليين على طاولة واحدة. البداية كانت مع اللقاء بوفد إيراني رفيع المستوى في بروكسل، ركّز على «طرف لفتح العملية السياسية» في سوريا، كما قالت وزيرة خارجية الاتحاد فيدريكا موغيريني خلال وصولها إلى القمة الأوروبية.

الوفد الايراني ترأسه نائب وزير الخارجية للشؤون العربية والافريقية حسين أمير عبد اللهيان، الذي أبدى ترحيباً لافتاً بدور أوروبي خلال الحوار الذي أجرته معه «السفير»، على هامش زيارته إلى بروكسل، وتحديداً وساطة موغيريني. كان لافتاً أيضاً المرونة الجديدة التي أبداها حيال الانفتاح على مبدأ مشاركة بعض مجموعات المعارضة المسلحة في العملية الانتقالية و«تقاسم السلطة».

التعويل على هذا المسعى بدا واضحا في تعليقات موغيريني. قالت إنها سارعت للاتصال بالمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، أمس، بعد لقائها بالإيرانيين، لإبلاغه بـ«وضع محادثاتي مع الشركاء الاقليميين وللاستماع إليه».

كان متوقعاً ألا يمكن للزعماء الاوروبيين اتخاذ قرارات حاسمة تطوّق دفقات اللجوء. المشاريع التي يطرحونها تحتاج وقتاً وتفاوضاً طويلين، ولا يمكن العمل عليها إلا بالتدريج، كما قالوا. أبرزها الوصول إلى قوة أوروبية مشتركة، يمكنها إدارة الحدود الخارجية، مع منح وكالة مراقبة الحدود الاوروبية «فرونتكس» صلاحيات أكبر. لديهم أيضاً تحدي الوصول إلى آلية دائمة لتوزيع اللاجئين، اعتماداً على مبدأ «الحصص». صحيح أن ذلك تمّ مع توزيع 120 ألف لاجئ، لكن هناك معارضة شديدة لإرسائه كقاعدة دائمة. المستشار النمساوي ويرنر فايمان قال إن تعقيدات الوصول إلى آلية دائمة، إذا تم الوصول إليها، هي قضية ستواجه أوروبا «خلال الخمس أو العشر قمم المقبلة».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى