روسيا في سوريا: المتوسط ليس أطلسياً فراس الشوفي
منذ انطلاقة العمليات العسكرية الروسية في سوريا، تغيّر المشهد عملياً. المناخات الايجابية ظاهرة للعيان لكل زائر إلى دمشق. إضافة إلى الجمهور المتفائل بأن تقود المشاركة الروسية إلى إنهاء الأزمة، فإن الأكثر تفاعلاً، ضباط الجيش السوري وجنوده الذين يلمسون نتائج العمليات الروسية، ويتحدثون عن عمليات تنسيق أمنية وعسكرية ولوجستية، تسمح بالحديث عن متغيرات كبيرة قابلة للتحقق
تزامن استقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الفلسطيني محمود عباس للمشاركة في افتتاح «مسجد موسكو الكبير» نهاية أيلول الماضي، مع زيارة البابا فرنسيس للبيت الأبيض ولقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما، في لقاء هو الـ 29 بين رئيس الولايات المتحدة وبابا الفاتيكان. ووصفت وكالة الصحافة الفرنسية الزيارة بأنها «كانت طوال عقود أمراً لا يمكن تصوّره» وأن «أوباما البروتستانتي، لا يخفي إعجابه بالبابا الكاثوليكي، ولا يتردّد في الإشادة بفكره الفريد… ومثل هذه التصريحات لم تعد تثير الصدمة».
إلّا أن زيارة الحبر الأعظم للبيت الأبيض، إذا ما وُضعت في سياق حركة فرنسيس منذ توليّه الكرسي الرسولي، كانفتاحه على الكنائس البروتستانية الصغيرة في أوروبا، على الرغم من عدم اعتراف الكنسية الكاثوليكية بها، فإنه يمكن القول إن «خطوطاً عريضة رسمت بين الفاتيكان والولايات المتحدة بدفع بريطاني، لإبقاء أوروبا في الفلك الاقتصادي والسياسي والأمني الأطلسي، في مقابل الدعوات إلى التكامل الاقتصادي مع روسيا، وخروج دولٍ كألمانيا من الحظيرة الاقتصادية الأميركية إلى الحضن الروسي»، على ما تقول مصادر كنسية أرثوذوكسية بارزة لـ«الأخبار».
ولا يمكن فصل هذا التحالف الجديد عن مجريات الأحداث في أوكرانيا وانفصال شبه جزيرة القرم، حيث أخذت الحرب بعداً دينياً، يوازي الصراع الاقتصادي وصراع النفوذ. ولا يخفى أن روسيا تنظر إلى المقاتلين المنضوين في الجيش الأوكراني التابع لكييف والميليشيات المتعاونة معه، على أنهم «مزيج من المتطرّفين النازيين القوميين، والمتطرّفين الكاثوليك»، على ما تقول مصادر دبلوماسية روسية لـ«الأخبار»، فيما تطغى الأرثوذوكسية على مقاتلي دانيتسك ولوغانسك، الموالين لروسيا في الشرق الأوكراني. وتنظر روسيا بعين الريبة إلى «إعادة إحياء العصبيات اليمينية المتطرّفة في أوروبا ضد الإسلام واللاجئين بعد تفاقم أزمة اللجوء، بما يرتدّ سلباً على الدور الروسي»، كما تقول المصادر الكنسية.
الصراع الاقتصادي ـــ الأمني على أوروبا، لا يوفّر البحر المتوسط، بل يجعله في عين الصراع الحالي والمقبل لحسم المعركة الأوروبية، خصوصاً في ظلّ أزمات اللاجئين وثروات النفط والغاز الهائلة الكامنة على الحوض الشرقي لبحر «العالم القديم»، وسقوط ليبيا في الفوضى التامة.
إلّا أنه لا يناسب روسيا أن توضع اندفاعتها العسكرية الأخيرة في سوريا في خانة الحرب الدينية أو المقدّسة، وهو ما يشكّل مادة دسمة للمعسكر الأميركي للتحريض على الدور الروسي، خصوصاً في ظلّ إشارات أوباما ووزير خارجيته جون كيري في الأيام الماضية إلى أن «روسيا تتحالف مع الشيعة ضد السنّة» وأن «بوتين يحوّل نفسه هدفاً للجهاديين (السنّة)».
روسيا على المتوسط
في أحد مباني رئاسة أركان الجيش السوري، استراق النظر من الممرّ الطويل إلى المكاتب يمنة ويسرة، يسمح بلقاء العيون الزرقاء للضباط الروس، وهم يتبادلون الأحاديث والملفات والخرائط مع أقرانهم السوريين.
خلف الضابط السوري الرفيع، خريطة جوية كبيرة لمدينة تل أبيب، وصور «بانوراميك» تفصيلية لهضاب وتلال الجولان المحتل والمحرّر. المعنويات المرتفعة والتفاؤل بالوجود الروسي ليس خافياً على وجه الضابط الذي يتمسّك ببذلة الجيش السوري التقليدية المرقّطة.
قبل الدخول في تفاصيل الميدان، يقول الضابط لـ«الأخبار» إن «الحضور الروسي في سوريا يكفل عدم تحوّل المتوسط إلى حديقة أطلسية»، لأنه «لو سقطت سوريا لصار المتوسط أطلسياً». ويجزم الضابط بأن «نتائج المعركة في الشرق سترسم سياسة العالم الجديد». ويضيف: «لا يمكن أن تغيب روسيا والصين عن معادلات الأمن الإقليمي والعالمي الجديدة». ويحدّد اللواء الفارق بين «الحرب المزعومة» التي تخوضها أميركا باسم «التحالف الدولي» ضدّ تنظيم «داعش»، وبين الحرب التي بدأت روسيا بخوضها، مشيراً إلى أن «روسيا تخوض الحرب بجدية للحفاظ على الدولة السورية، بينما يطرح الأميركي نتائج قتال داعش سياسياً، بتغييرات جذرية في شكل المنطقة وأنظمتها».
وتدرك روسيا جيّداً أن «الإمساك بعوامل النفوذ عند ساحل المتوسط لن يكون بهذه السهولة. فالأطلسي يمتلك قوات بحرية ألمانية وفرنسية وإيطالية عند السواحل اللبنانية، وهي موجودة بحسب القرارات الدولية… في ظل الدعوات المتكررة أيضاً إلى إعادة فتح مطار القليعات»، لذلك، بحسب الضابط، «تحرص روسيا على أن يكون تحركها أيضاً ضمن إطار شرعية دولية، يكون عنوان الحرب على الإرهاب الذي استخدمته الولايات المتحدة مراراً، العنصر الأساسي فيها».
الهدف هو الرقة
ميدانياً، يشير الضابط إلى أن «الغارات الروسية، على رغم تحقيقها نتائج مهمّة، لا تزال في إطارها الاستطلاعي والتجريبي لردود فعل المسلحين». ويؤكّد أن «معظم الغارات تجري باشتراك سلاح الجو السوري، ويجري التنسيق على مستوى الاستثمار أيضاً». ويضيف أن «أهداف الطائرات الروسية هي أهداف الجيش السوري، كل الذين يحملون السلاح ضد الجيش العربي السوري هم أهداف»، إلّا أنه لا يخفي أن «القوقازيين أولوية لما يشكلونه من خطر على الأمنين الروسي والأوروبي».
وحول المدى الزمني، يشير الضابط إلى أن «من المبكر الحديث عن مدى زمني الآن. الحرب لا تزال في بدايتها، لكننا نلحظ المتغيّرات والهدف هو اقتلاع الإرهاب عن كامل الأرض السورية، كذلك فإن المدى الزمني مرتبط بالعمليات البرية». ويلفت الضابط إلى أن «التوسّع الروسي باتجاه العمل في العراق سيكون في سياق تفعيل غرفة العمليات الجديدة في بغداد»، من دون أن يستبعد «قيام الطائرات الإيرانية بمشاركة الطائرات السورية في الحرب».
لماذا تحقّق الضربات الجوية الروسية نتائج أفضل من الطائرات السورية؟ يشير الضابط إلى أن «الطائرات السورية تقاتل منذ أربعة سنوات ونصف سنة، وخسرت كثيراً من مميزاتها الفنية، بالإضافة إلى إنهاك الطيارين السوريين الذين يشيد الطيارون الروس ببراعتهم العالية». ويذكر الضابط أنّ «من المفترض أن تقوم الطائرة الحربية بمعدل 2 ــ 3 طلعات في اليوم، بينما الطائرة السورية تقوم بـ 8 طلعات يومياً». ويتابع أن «القوة الروسية التي وصلت تملك قدرات رصد واستطلاع عالية ومتابعة للنتائج، والطائرات لديها مدى عملياتي عالٍ على قاعدة (اضرب وانسَ)، وقدرة على الارتفاع، بينما يضطر الطيران السوري إلى التحليق أحياناً فوق منطقة الهدف، كذلك يملك الطيران الروسي قدرات عالية للإغارة ليلاً، ونوعية ذخائر متطورة كالقذائف المضادة للتحصينات». ويقول إن «الطائرات الروسية الجديدة تستطيع التحليق في أي ظرف مناخي، بينما خسرنا مطار أبو الظهور بسبب عرقلة سلاح الطيران خلال العاصفة الرملية». ويجري الحديث عن استخدام روسيا طائرتي إيليوشن 20 «Il-20m»، المعنيتين بتنسيق حركة عدّة طائرات في آن واحد.
وفي وقت يؤكّد فيه الضابط أن «العمليات الروسية أنهت نهائياً أي حلم بإقامة منطقة حظر جوي للطيران فوق سوريا أو منطقة آمنة أو عازلة قرب الحدود التركية»، يشير إلى أن الضربات الحالية «تستهدف نقاط ارتكاز المجموعات المسلحة التي تربط المحافظات، كتلبيسة والرستن التي تربط حمص بحماه، واللطامنة وكفرزيتا وخان شيخون التي تربط حماه بإدلب، وجسر الشغور التي تربط اللاذقية بإدلب».
ويضع الضابط «ضرب وتسوية هذه النقاط» في سياق «التأسيس للمرحلة الأساسية وهي تطهير الرقة من داعش، لكونها الآن معقل الإرهاب الرئيسي».
متى تبدأ العمليات البرية؟
يذكر الضابط خيارات عدة لجبهات برية محتملة، من حمص إلى حلب إلى ريف اللاذقية ــ إدلب، إلّا أنه لا يحسم شيئاً. لكنّه يؤكّد المعلومات المتداولة عن مؤشرات معركة كبرى في الشمال. وتقول في هذا السياق مصادر عسكرية أخرى إنه «يجري حشد نحو 8000 مقاتل من الجيش السوري والقوات الرديفة لفصل المسلحين عن الحدود التركية»، و«تجميع قوات في حلب لتنفيذ عملية خاطفة».
الإنجاز الميداني الأبرز في توزيع الأسلحة الروسية الجديدة، يتجلى في تأمين محيط اللاذقية بشكل كبير ضد أي هجمات محتملة، ولا سيما بعد أن أعلن «جيش الإسلام» المرتبط بالسعودية، إطلاق صواريخ عدة على قاعدة حميميم. ويعتقد أن «جيش الإسلام» هو المسؤول أيضاً عن إطلاق عدة قذائف هاون على السفارة الروسية في دمشق. وقد شملت خطوات تأمين محيط منطقة حميميم، والساحل عموماً، عبر نشر بطاريات مدفعية ذاتية الحركة من نوع «Msta»، ومدفعية مقطورة، بالإضافة إلى عدد من راجمات «سميرتش»، وقد جرى تداول صور تظهر وجود هذه الراجمات في ملعب القرداحة. وجود الراجمات وبطاريات المدفعية يعني إمكانية الرد بالنار فوراً على مصادر النيران، وبالتالي فرض طوق آمن ولا سيما في منطقة الساحل وسهل الغاب، خصوصاً أن راجمات «سميرتش» تملك مدى يصل حتى 90 كلم، ويسمح بتغطية معظم محافظتي إدلب وحماه. كذلك نُشرت بطاريات دفاع جوي من نوع «بانتسير» التي يطلق عليها «الناتو» اسم SA-22، في منطقة حميميم والساحل عموماً وهذا يشبه خلق قبة فولاذية لغرب سوريا.
اي دور للصين؟
على رغم ذكر الرئيس السوري بشار الأسد أن الصين «لا تُسهم في مكافحة الإرهاب عسكرياً»، يقول الضابط إن «الصين نسق ثانٍ في الحرب على الإرهاب، بعد النسق الأول الروسي»، مشيراً إلى «تعاون روسي صيني في نقل المعدات إلى سوريا»، واصفاً بكين بـ«القوة الكامنة للتدخل في مكافحة الإرهاب في حال طلب سوريا، وأنها عازمة على القضاء على الإرهابيين التركستانيين والإيغور ذوي الأصول الصينية». وتشير مصادر أخرى إلى أن «الصينيين قادمون إلى سوريا أولاً لعدم الغياب عن تشكيل الأمن العالمي الجديد، وثانياً لحمل ورشة إعادة الإعمار».
(الأخبار)