مَن يريد خوض حروب أيمن الظواهري؟
ناصر قنديل
– ما جرى من أحداث في المنطقة خلال السنوات الخمس الماضية، وتتويجاً مع ما يجري في حربَي اليمن وسورية، ومقاربة التدخلَيْن السعودي والروسي كلّ على ضفة، يفرض نفسه على كلّ عقل متدبّر لا يسمح باستغبائه، أو لا تمرّ عليه سانحة لا يلتقطها من دون تفكّر، كي لا يستفيق بعد زمن ويكتشف أنه كان ضحية حرب نفسية محترفة أغشت على عينيه وعطلت عقله. فقد تلاحقت مجموعة أحداث يستعصي عدم الربط بينها وتقبّلها بسذاجة تفسير المصادفات، أو تقاطعات المصالح، فالواضح أنّ إعلان الحرب على «داعش» في المنطقة شكل ستارة سميكة لتحجب تعاون قوى هذه الحرب مع تنظيم «القاعدة» الرسمي الذي يخوض حرباً على «داعش» هو الآخر، وبدء تبييض صفحته، بما يشبه سيناريو مدروساً لتظهير تحالف عتيق كان محرجاً في الماضي وآن أوان تظهيره.
– الاحتواء المزدوج هنا تطوّر من مرحلة قتال «القاعدة» والتعاون معها في آن واحد، ليصير إدارة صراع جناحَي «القاعدة»، المتصارعين تحت رايتَي مشروع كلّ من أسامة بن لادن الدولي القائم على أولوية ضرب مصادر القوة لدى الغرب والحكومات في البلاد الإسلامية، وحصر مهمة بناء الدولة بشكل الخلافة أو الإمارة، وهو المشروع الذي يمثله «داعش»، وفي المقابل مشروع أيمن الظواهري الذي يريد تحييد الغرب والحكومات المتعاونة معه تدريجاً وحصر المعركة بإيران وحلفائها، وفتح الباب لدولة أو دول بحدود وطنية أو إقليمية يديرها الإسلاميون بتنوّع يتيح الحفاظ على المشروع الأصلي لـ«القاعدة» كقوة قائدة، وهو المشروع الذي تمثل محوره «جبهة النصرة».
– تبدأ الأسباب التي تدفع للاستنتاج بوجود صفقة تمّت بين واشنطن وحلفائها من جهة، وبين تنظيم «القاعدة» بقيادة أيمن الظواهري من جهة مقابلة، ورعتها «إسرائيل»، من تزامن التخلص من أسامة بن لادن وقبله أبي مصعب الزرقاوي مع بدء مسار التحوّل الذي قاده أميركياً الجنرال ديفيد بترايوس، عندما كان قائداً للقوات الأميركية في العراق وتولّى تصفية أبي مصعب الزرقاوي بعد أسره حيّاً لحساب ولادة «جبهة النصرة» كتنظيم في قلب «القاعدة» ووصولاً إلى تسلّم بترايوس إدارة الوكالة المركزية للمخابرات الأميركية، وتوليه تصفية أسامة بن لادن بالطريقة ذاتها تمهيداً لتسلّم أيمن الظواهري قيادة «القاعدة» ضمن مهمة محدّدة وهي الانتقال لجعل «النصرة» تختصر «القاعدة» وتهميش مَن لا يلتزم نهجها بأولوية الحرب على محور المقاومة وقواه وعموماً مشاركة أميركا لائحة الأعداء والأصدقاء، واللافت أنّ بترايوس قد ظهر علناً قبل أسابيع قليلة يدعو إلى التحالف الأميركي والغربي مع «جبهة النصرة» في ثنائية الحرب التي تعلنها واشنطن، «لا لداعش لا للأسد»، ناهيك عن الكلام المعلن لوزير الحرب «الإسرائيلي» موشي يعالون بحق «جبهة النصرة» كقوة اعتدال. شاركه توصيفها هذا قادة في المنطقة من الرئيس التركي رجب أردوغان الذي أضاف دعماً لوجستياً استثنائياً لـ«النصرة» فوق وصفه هذا، إلى النائب اللبناني وليد جنبلاط الذي غامر بمصير الدروز في سورية لضمان نجاح ما أسماها «ثورة الشعب السوري الذي تمثّله النصرة» وما بينهما وزير العدل اللبناني ممثلاً تيار المستقبل أشرف ريفي الذي دعا إلى عدم التسرّع بوصف «النصرة» بالإرهاب غداة ذبحها عدداً من جنود الجيش اللبناني، قائلاً إنه عاتب على الثوار بسبب هذا الفعل الخاطئ وداعياً إلى الحوار معهم على أساس صفتهم هذه كـ»ثوار» وليس كإرهابيين. ومنعاً للنسيان، لا بدّ من التذكير كلّ لحظة بأنّ «النصرة» هي تنظيم «القاعدة» الرسمي.
– تقدّم الحربان الدائرتان اليوم في سورية واليمن فرصاً هامة لتقييم هذا الاستنتاج، وفحصه وتمحيصه، حيث يتصدّر الدور الروسي التحوّلات الجارية في مسار الحرب في سورية، ويتصدّر الدور السعودي محاولات فرض مسار الحرب في اليمن، وتتوزّع ردود الفعل من حولهما، بطريقة لافتة، فالحرب في سورية التي حيّد التحالف الذي تقوده واشنطن تنظيم «القاعدة» من لائحة أهدافه فيها، وبنت أطرافه مع تنظيم «القاعدة» أفضل علاقات التحالف والتعاون، يُراد لها عنوان حصري هو القضاء على «داعش»، وهو تنظيم إرهابي متفرّع من القاعدة وملتزم بفكرها الأصولي وقائدها الأصيل ونهجها الأصلي، وهذا الهدف بتأديب «داعش» هو ما تريده «القاعدة» وتسعى إليه. وفي اليمن تدور الحرب السعودية بالتنسيق والتعاون مع «القاعدة» وتمنح مسلّحيها لقب «المقاومة الشعبية»، وتستهدف الحوثيّين، الذين تستهدفهم «القاعدة» أيضاً، وفيما ينال الدور الروسي احتجاجاً يصل حدّ التهديد من دول الغرب وحلفاء أميركا بسبب عدم حصر حربه بـ»داعش»، ينال الدور السعودي الثناء ويحظى بالدعم والمباركة، وليس من فارق بينهما إلا شيء واحد هو: مَن ينسّق مع «القاعدة» ومَن يقاتلها؟
– محاولة تفسير الفارق بين الدورين الروسي والسعودي في حربَي سورية واليمن بالموقف من الرئاستين، محكوم عليها بالفشل لسبب بسيط، وهو أنّ منصور هادي الذي منح تغطية عدوان على بلده دمّر مرتكزات العمران وقتل البشر ودمّر الحجر، لا يمكن افتعال المقارنة بينه وبين الرئيس السوري بشار الأسد، والقول إنّ هادي مسالم والأسد دموي، وبذريعة هذا الفارق المفتعل يصير التدخل السعودي مبرّراً لحماية رئيس شرعي مسالم، عكس التدخل الروسي في سورية، فمسؤولية ما تكبّده اليمن خلال ستة شهور من العدوان السعودي يحملها هادي، الذي لم تكن مسالمته قبل العدوان إلا علامة ضعفه وهزاله، كدليل على عدم وجود مواطن يمني واحد مستعدّ لرفع صورته ولا جندي يمني واحد مستعدّ لإطلاق رصاصة واحدة دفاعاً عنه ولا إهراق نقطة دم واحدة لحمايته. وعندما تسنّت له جيوش الغزو لم يتورّع عن منحها التغطية التي طلبت والتصرف تحت قيادتها كعميل مأجور، فهذا يمنح الرئيس السوري تفوّقاً أخلاقياً عليه عدا عن الدستورية والشرعية بمعناهما العميق كتعبير عن إرادة الشعب، حيث لا يتجرأ أعداء الأسد أنفسهم على التشكيك في وجود أغلبية وازنة من الجيش والشعب تقف وراءه وتسانده، وقد جاءت مشاهد السوريين الزاحفين بطوفان بشري إلى صناديق الاقتراع في لبنان دليلاً حيّاً وشفافاً على هذه الحقيقة، ليصير الواقع أنّ روسيا تدعم رئيساً وتتعاون مع جيش لهما كلّ الشرعية في سورية، بينما تقف السعودية مستظلة بورقة توت باهتة يقدّمها رئيس فاقد دعم أي من مواطنيه وجنود جيشه.
– التشبيه والمقارنة بحالة منصور هادي يصحان مع الرئيس الأوكراني السابق فيكتور بانوكوفيتش الذي كان مسانداً لروسيا، وانهار حكمه وفرّ من بلده، كما فعل منصور هادي، ولم يجد مواطناً يرفع صورته ولا جندياً يقاتل دفاعاً عنه، لكنه فعل ما فعله هادي ففرّ إلى روسيا وقدم لها طلباً بالتدخّل، ورغم أهمية أوكرانيا لروسيا أكثر من سورية وربما أكثر من أهمية اليمن للسعودية لم تستعمل موسكو طلب بانوكوفيتش كما استعملت الرياض طلب هادي، بل سعت روسيا إلى حلّ سياسي بين مكوّنات أوكرانيا، مقابل سعي السعودية لاحتلال اليمن بتغطية ورقة توت هادي. أما في سورية فإنّ المفارقة هي أنّ الرئيس السوري لم يقدّم طلباً مشابهاً لروسيا لطلب كلّ من بانوكوفيتش وهادي، بل أنجز اتفاقاً مع روسا محوره التنسيق في الحرب على الإرهاب، التي تشكل تحالف دولي إقليمي تحت شعارها يقاتل في سورية وفيه كلّ أعداء سورية، ويقوم بحرف الحرب عن أهدافها نحو حماية «القاعدة» وتبرير التعاون معها، والمنطقي أن تسعى سورية إلى قيام تحالف بوجهه يُعيد الحرب إلى نصابها الصحيح.
– لم يعُد ثمة فرصة لتمويه حقيقة صارت راسخة مع تراكم الوقائع، قوامها أنّ تحالفاً بين «إسرائيل» و«القاعدة»، كان قائماً بالأساس، وكان يتقاسم المهام في ترتيب خطوات واشنطن بالفعل وردّ الفعل والضغوط والاستدراج، صار بفعل ما شهدته المنطقة من تطورات بحاجة لتضافر علني للجهود، ما استدعى تغييرات هيكلية في لوحة الأهداف ولوحة التحالفات. والمثير للاستغراب أنه بعدما كانت «القاعدة» تخوض حروب أميركا بالوكالة، من الحرب على السوفيات إلى الحرب على سورية وإيران، صارت أميركا تخوض حرب «القاعدة» بالوكالة، بدءاً بتحجيم «داعش» وصولاً إلى مشروع الترويض وإعادته إلى بيت الطاعة الظواهري، وهذا ربما يفسّر عدم النية بالحسم مع «داعش»، ودعم التهاون بالنيل من مواقع «القاعدة»، التي اسمها «النصرة» أو «الفتح» أو «أحرار الشام» أو «جيش الإسلام» أو «تجمُّع العزة» أو غيرها من الأسماء في سورية.
– عنوان المرحلة يبدو في واشنطن، تشكيل تحالف دولي إقليمي من اليمن إلى سورية مهمته خوض حروب أيمن الظواهري، لكن السيف الروسي سبق العذل الأميركي.
(البناء)