شؤون دولية

موسكو تفرض حضورها القوي وترسخ منطق القطبية التعددية عالميا د.منذر سليمان

 

لقاء القمة بين الرئيس اوباما والرئيس الروسي بوتين اثار ارتباكا في القراءة الاميركية لفحواه، والذي جرى على هامش اعمال الجمعية الأممية، لاعتبارات متعددة تتراوح بين عدم تيقنها من اهداف روسيا المنظورة والمضمرة، والتحذير من مغبة القبول بمنافسة دولية ندية للولايات المتحدة وترسيخ تعدد القطبية .

استكانت الولايات المتحدة لمركزها النافذ والمسيطر عبر قوتها العسكرية على مراكز منطقة الشرق الاوسط الرئيسة، لما ينوف عن ربع قرن متواصل، لا سيما ازاحتها النفوذ الروسي من العراق وليبيا، نتيجة العدوان العسكري المباشر.

وفجأة تغير المشهد وتبادل الطرفان المواقع: روسيا تتقدم بقوة وثبات، والولايات المتحدة تترنح وتعيد مواقع تموضعها على الصعيد العالمي، والبعض رآه انكفاءاً وشبه انسحاب لها من المنطقة. وما عزز الشكوك التقليدية موافقة واشنطن سحب بطاريات حلف الناتو من الباتريوت من الاراضي التركية والتعويض عنها بطائرات مقاتلة اضافية ترابط في منطقة ديار بكر. الرؤيا الاقليمية للولايات المتحدة انحدرت طرديا ايضا واضحت واشنطن “غير قادرة” على التدخل لحماية وكلائها المحليين كيفما ومتى رغبوا.

الاعترافات الاميركية الرسمية واقرارها بفشل برامجها لتجنيد وتدريب “معارضة سورية معتدلة،” لم تسعف صورتها التي تحولت الى مصدر فكاهة وتندر، وخاصة بعد انفاقها ما لا يقل عن 500 مليون دولار لم تحصد سوى “4 الى 5” عناصر، فقط لا غير.

تجدر الاشارة في هذا الصدد الى “الغضب والحنق” الاميركي من “استهتار” الجانب الروسي وابلاغ عسكرييه ضرورة اخلاء الاجواء السورية خلال ساعة واحدة، تفاديا للصدام العسكري الجوي بينهما. اميركا اعتادت تطبيق الاسلوب عينه على اطراف اخرى “اقل أهمية،” وليس الانصياع لتطبيقه حرفيا.

تحولات بنيوية في الشرق الاوسط

       “اضطراب” الخطاب السياسي الاميركي اوردته شهرية “فورين افيرز” الرصينة، في سياق تغطيتها البارزة للقاء اوباما – بوتين، مؤكدة ان “الرئيسين يتشاطران الكراهية لبعضهما؛” معربة ايضا عن استمرار التوتر بينهما وعدم توصلهما لقراءة مشتركة لحل الازمة السورية. الرئيس الروسي شدد بدوره على الضرورة القصوى للتعاطي مع الرئيس السوري والتنسيق معه حصرا في محاربة الارهاب؛ بينما مضى خطاب الرئيس اوباما في تكرار الموقف السابق “بفقدان (الرئيس الاسد) الشرعية .. وليس من الحكمة العودة للاوضاع السابقة.”

      ولفت انصار معسكر الحرب الانظار الى “التغيير” الذي طرأ على لهجة الخطاب الاميركي، قبل وبعد اللقاء، اذ حذرت الادارة الاميركية “قبل اسبوعين من حتمية فشل التدخل الروسي في سوريا،” الى ان تم قبوله “بل الترحيب به لمقارعة الدولة الاسلامية.” وثارت ثائرة قادة الكونغرس “لتقدم بوتين واتخاذه زمام المبادرة والسيطرة على سوريا.”

       الاستراتيجية الاميركية في سوريا اضحت في وضع لا تحسد عليه من الارتباك واهدار الموارد، كما اتهمها قادة كبار في الكونغرس. واشار اولئك الى جهود داعش تجنيد “اكثر من 7،000 مقاتل اجنبي في صفوفه خلال الاشهر الثلاثة الماضية فقط،” حسبما جاء في تقرير مفصل للكونغرس. واعتبر قادة الكونغرس ذلك التطور “لم يسبق له مثيل في التاريخ .. وغير مسبوق كذلك في السلبية المفرطة للسياسة الاميركية.”

       دأبت السياسة الاميركية على رفع سقف توقعاتها منذ زمن، خاصة فيما يتعلق بمستقبل الرئيس الاسد، وفق وصفها، ونيتها المعلنة بالاطاحة به. وجاء التحرك الروسي القوي “دعما (للرئيس) الاسد .. والاعداد لتعزيز حضور عسكري لايران” في سوريا. بعبارة اخرى، الوضع الراهن في سوريا جاء ثمرة مناورات ديبلوماسية بين القوتين العظميين في اروقة الامم المتحدة رجحت فيها المبادرة الروسية.

       المراجعة الاميركية الهادئة لسبر اغوار التحرك الروسي “المفاجيء” جاءت على لسان احد اهم الخبراء الاستراتيجيين والمقربين من الدوائر العسكرية والاستخباراتية، انثوني كوردسمان من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، 2 تشرين1/اكتوبر الجاري. واوضح كورسمان ان نقطة التحول في التفكير الروسي كانت ثمرة لقاء مكثف استضافته وزارة الدفاع الروسية يوم 23 أيار/مايو 2014، شارك فيه عدد من القادة العسكريين الكبار من روسيا وروسيا البيضاء.

       واضاف كوردسمان ان المؤتمر اسفر عن خروج موسكو باستنتاجات غير معهودة لقراءاتها الخاصة “بالاستراتيجية الاميركية والاوروبية (وجهوزيتها) استخدام قوتها العسكرية، وكذلك للاهداف والقرارات الاميركية والاوروبية المطبقة في الغرب او فيما ورد سابقا في الادبيات الروسية.”

       واسهب كوردسمان في توصيف تأثير “الثورات الملونة،” المدعومة اميركيا واوروبيا، على زعزعة استقرار النظم السياسية المحاذية لروسيا: اوكرانيا 2004؛ كيرغيستان 2005؛ جورجيا 2012. وخلص بالقول ان الخلاصة الاجمالية للمؤتمر المذكور رسخت فهما متطورا للقيادة الروسية حول “توجهات الولايات المتحدة واوروبا العدوانية والتي استندت الى استحداث اضطرابات بصورة ثورات تزعزع استقرار الدول المستهدفة خدمة للمصالح الأمنية (الغربية) بكلفة مالية متدنية وبأقل قدر من الخسائر البشرية.”

       وحذر كوردسمان صناع القرار في الولايات المتحدة واوروبا “النظر الى ما هو ابعد من التكهن واستقراء (دوافع الرئيس) بوتين والتركيز على ما صدر عن الاستراتيجيين والعسكريين الروس .. حول توظيف الثورات الملونة ومن غير المسموح التغاضي عنها في القراءة الاميركية والاوروبية.”

       وعليه، اقرت الدوائر الاميركية انها اضحت بمواجهة توجه واستراتيجية وخطاب روسي جديد، جسد نتائجه على الفور بقصف مركز على مواقع وتجمعات العناصر المسلحة في سوريا، بخلاف القصف الاميركي وحلف الناتو الذي لم يثبت استهدافه لأي من تلك التجمعات او مراكز قياداتها – بشهادة المصادر الاميركية. وساد الذهول الدوائر الاميركية لاسلوب روسيا المهين للجانب الاميركي وابلاغه نيتها بدء القصف قبل ستون (60) دقيقة من ساعة الصفر.

       جذر قلق الولايات المتحدة وحلفائها الاقليميين من القصف الروسي يكمن في اعادة موسكو ترتيب اولويات الصراع، الذي كان يدار بالواسطة وعبر الوكلاء المحليين وبروزه الى مرتبة صراع دولي تشترك فيه القوتين العظميين مباشرة. كما يعود القلق لسعي واشنطن اعادة تأهيل تنظيم القاعدة بجناحه السوري – جبهة النصرة – وتسويقه كمعارضة معتدلة وحجز مقعد ودور له في جولة المفاوضات السياسية المقبلة. واستهدف القصف الروسي تلك التشكيلات المدعومة من اجهزة الاستخبارات الاميركية، لا سيما ما كان يسمى “الجيش الحر،” مما اثار حفيظة الرئيس اوباما ودائرة مستشاريه المقربين لانكشاف الغشاء السياسي والغطاء الديبلوماسي والعسكري.

       ليس خافيا على الطرفين، الاميركي والروسي، ابعاد ومعاني دخول روسيا المباشر في دائرة القتال وما سيتركه من تداعيات تقوض النفوذ والدعم الاميركي للوكلاء الاقليميين والتشكيلات القتالية المختلفة.

       اشار تقرير كوردسمان “الاستراتيجي” في خلفيته الى العلاقة الحسابية الطردية الجديدة في سوريا: تقدم روسيا مقابل تراجع الدور الاميركي في المنطقة، كرسها قرار البرلمان الروسي (الدوما) الموافقة على اشتراك القوات الروسية في حرب مباشرة خارج اراضي الدولة، مما عززت قلق الدول الغربية من خطاب موسكو على ان “التدخل الروسي يستند الى ارضية شرعية حصرا .. وبطلب من الحكومة والرئيس السوري.”

       التدقيق في ثنايا الخطابين السياسيين، الاميركي والروسي، يؤدي الى شبه تطابق او رؤى للحل المنشود في سورية. دأب كل من الرئيس اوباما ووزير خارجيته جون كيري على الترويج لحل سياسي تفاوضي، تبعه لاحقا عبارة مرحلة انتقالية “بمشاركة (الرئيس) الاسد.” اما الرئيس الروسي فقد اوضح في خطابه امام الجمعية العامة ان “الحل طويل الأجل في سوريا لا يمكن ان يتأتى الا عبر اصلاحات سياسية تستند الى مفاوضات” بين الاطراف المختلفة. واضاف ليقطع الشك باليقين “ادرك ان الرئيس الاسد يعي ذلك وهو على اتم الاستعداد للمضي بذلك الخيار. نحن نراهن على حضوره الفعال ومرونة موقفه وجهوزيته لتقديم تنازلات” بهذا الشأن.

       ارفق الرئيس الروسي اعلانه عن اولوية الحل السياسي التفاوضي بفتح جسر جوي بين موسكو ودمشق تم عبره تموضع احدث الاسلحة والدفاعات الجوية الروسية برفقة طواقمها من العسكريين الروس.

تزامن ذلك اعلان روسيا انشاء غرفة عسكرية مشتركة مقرها بغداد “لتنسيق الجهود العسكرية بين روسيا وسوريا وايران والعراق،” والتي باشرت مهامها على الفور بابلاغ الملحق العسكري الاميركي في بغداد عن بدء ساعة الصفر لاستهداف تجمعات المسلحين في سوريا؛ والتنسيق العالي “للمعلومات الميدانية حول مجموعات داعش الارهابية” في كل من العراق وسوريا.

آفاق تصادم القوتين العظميين

       على الرغم من الضجيج الاعلامي الاميركي واستنهاضه نزعة العداء التاريخية لروسيا الا ان الطرفين يشددان على أهمية تنسيق جهودهما لتفادي الصدام العسكري “عن طريق الخطأ” لما قد يسببه من تأجيج وتعريض الاوضاع الدولية والاقليمية لاخطار المواجهة العسكرية.

       على هذه الخلفية تكمن تحذيرات انثوني كوردسمان مناشدا قادة بلاده، عسكريين وسياسيين، قراءة التحولات الفكرية والاستراتيجية لروسيا التي “تعتبر الغرب طرفا يرفض الشراكة ويهدد روسيا على طول حدودها المشتركة مع اوروبا.” وطالبهم ايضا بضرورة قراءة النظرة الدولية للولايات المتحدة بشكل خاص والتي “تعتبر الولايات المتحدة واوروبا عازمتين على زعزعة استقرار الدول في شمالي افريقيا والشرق الاوسط وكافة مناطق العالم خدمة لمصالحهما واهدافهما الخاصة.”

       التدخلات الاميركية المباشرة، في التاريخ القريب، تشير بوضوح الى عزمها الاطاحة بقادة دول لا تأتمر بمشيئتها واذكاء الاضطرابات الداخلية والحروب الأهلية: العراق وافغانستان وليبيا واليمن، فضلا عما يجري في سوريا.

       من الاهمية الاشارة الى اصدارات “ويكيليكس” الاخيرة التي نشرت وثيقة سرية اميركية صادرة عن وزارة الخارجية توضح التدابير والاجراءات التي يتعين تطبيقها في سوريا لزعزعة استقرارها، واذكاء التوترات الطائفية، وتأييد تحركات تنظيم الاخوان المسلمين الرامية للاطاحة بالنظام والدولة السورية. الوثيقة يعود تاريخها لعام 2006.

للانصاف، ينبغي الاشارة الى التحول الذي طرأ على الخطاب السياسي الاميركي، لا سيما في شقه الدعائي والاعلامي، اذ اصبح مطالبا “برفض كافة التدخلات الاجنبية في سورية،” في الوقت الراهن. بالمقابل، السياسة الروسية “الجديدة” تتحلى بالثقة من النفس وتهيئة الظروف اللازمة لتحقيق الانتصارات، مع الأخذ بعين الاعتبار تداعيات الحرب الجارية في اوكرانيا على الاقتصاد والقرار السياسي الروسي.

       شرعت موسكو في طمأنة الرأي العام الداخلي لاهداف حملتها العسكرية، واوضحت على لسان مدير طاقم موظفي الكرملين، سيرغي ايفانوف، ان التدخل يستند الى رغبة روسيا “حماية مصالحها في سوريا .. نتحدث بشكل خاص عن سوريا وليس الذهاب لتحقيق اهداف للسياسة الخارجية او ارضاء لطموحات” تدور في مخيلة البعض. مؤكدا انها أتت بدافع حصري “لحماية مصالح الاتحاد الروسي.”

       في الجانب الاميركي، تواترت انباء عن برنامج نشط لتدريب وتسليح عناصر سورية تشرف عليه وكالة الاستخبارات المركزية، منفصل عن برنامج البنتاغون والذي رصدت له ميزانية بلغ حجمها 500 مليون دولار.

       الاجواء السورية تعج بطائرات حربية مختلفة تعود لنحو عشرة دول، بعد دخول سلاح الجو الروسي مباشرة. ومن غير المرجح موافقة الرئيس الاميركي على امداد “عناصر السي آي ايه” باسلحة دفاع جوية في الظرف الراهن، خشية وقوع صدام مع القوات الروسية، فضلا عن القلق الاميركي الدائم من خطر وقوع تلك المعدات والصواريخ المضادة للطائرات بايدي عناصر تكفيرية ومجموعات متشددة.

       هوية “عناصر السي آي ايه” باتت محطة انظار السياسيين والاعلاميين على السواء. واجمعت معطم التقارير الصحفية بهذا الشأن ان تلك العناصر “مشكوك في ولائها لمشغليها،” وترجح تنسيق جهودها مع فرع تنظيم القاعدة في سوريا، جبهة النصرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى