هل يغيّب حضور روسيا سيناريوات «سورية الصغرى» وإقليميّ الأنبار والأكراد؟ د. عصام نعمان
لروسيا حضور قديم في سورية يعود الى منتصف خمسينات القرن الماضي. حضورها تبدّى بتزويد سورية أسلحة ثقيلة متطوّرة كما بإقامة قاعدة بحرية لوجستية في مدينة طرطوس. حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ظلَّ الحضور الروسي فاعلاً من خلال اتفاقات الأسلحة والمعدات المعقودة بين الطرفين. غير أنّ موسكو جمّدت توريد الأسلحة لدمشق العام 2013 عشيةَ انعقاد مؤتمر جنيف- 2. منذ نحو شهرين عادت الأسلحة والمعدات النوعية إلى التدفق على سورية.
أكثر من ذلك، كشفت واشنطن مؤخراً تقارير استخبارية تشير إلى وجود سرب من الطائرات الروسية المقاتلة في مطار حميميم القريب من اللاذقية وكتيبة من مشاة البحرية الروسية في قاعدة جرى إنشاؤها على طرف المطار المذكور. تردّدَ أيضاً أن وحدات إضافية من الجيش الروسي توجّهت إلى سورية في وقت كانت قطع الأسطول الروسي تقوم بمناورات قبالة ساحلها شرقيّ المتوسط.
التكثيف المفاجئ للحضور الروسي في سورية أقلق الولايات المتحدة و«إسرائيل». وزير الدفاع الأميركي اتصل بنظيره الروسي مستوضحاً ولافتاً إلى محاذير حصول احتكاك بين الطائرات الروسية الناشطة في الأجواء السورية وتلك الأميركية العاملة في إطار «التحالف الدولي ضد الإرهاب». قلق واشنطن يتعدّى مسألة الاحتكاك الجوي إلى مفاعيل إنهاء احتكارها مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية داعش». ذلك أن موسكو تعتبر الولايات المتحدة متواطئة معه لتنفيذ مخططات جيوسياسية في سورية والعراق، ما يستوجب إقامة تحالف جدّي بديل لمواجهته.
«إسرائيل» تبدو أكثر قلقاً من أميركا. مردُّ قلقها ثلاثة تحديات. أولها احتمال عرقلة المقاتلات الروسية حركة طائراتها التجسّسية في السماء السورية. ثانيها تسريب بعض الأسلحة الروسية المتطوّرة إلى حزب الله عبر سورية. ثالثها قيام دمشق، مع تدفق الأسلحة الروسية، بتمكين إيران وحزب الله من بناء منظومة مقاومة ضدّ «إسرائيل» في الجولان. إزاء هذه المخاطر، لم يتأخر نتنياهو في التوجه إلى موسكو لينقل مخاوفه إلى الرئيس بوتين ويستحصل منه، بحسب روايته، على «اتفاق لتشكيل آلية مشتركة لمنع أي سوء تفاهم بين الجيش «الإسرائيلي» والقوات الروسية المنتشرة في سورية».
هل يتبدّد قلق الولايات المتحدة و«إسرائيل» بتوصّلهما إلى آليات مشتركة مع روسيا لمنع أي سوء تفاهم في الجو والبحر والبر؟
المشكلة ليست في سوء تفاهم تجري معالجته بآليات مشتركة بل في أن تكثيف الحضور الروسي في سورية يوّلد جملة انعكاسات وتداعيات على أطراف الصراع في المنطقة ومخططاتهم السياسية والاستراتيجية، لا سيما الولايات المتحدة و«إسرائيل» وإيران وتركيا ومصر.
الولايات المتحدة كانت طليقة اليدين في المنطقة، تحرّك بيادق رقعة الشطرنج الإقليمية بحُرية وراحة ملحوظتين. الحضور الروسي الكثيف قيّد حركتها وحركة حلفائها، وأكرهَها على وضع روسيا وحلفائها في الحسبان. أكثر من ذلك، ربما أدّى تكثيف الحضور الروسي إلى تعظيم دور موسكو الإقليمي، بالتالي تعطيل مخططات الولايات المتحدة في سورية والعراق ولبنان. فقد دعمت واشنطن دائماً خصوم الرئيس بشار الأسد «المعتدلين»، كما تهاونت في مواجهة أعدائه الإرهابيين وفي مقدّمهم «داعش» و«النصرة». مخططها كان، وما زال، يهدف إلى إقصاء الأسد أو حشره، على الأقلّ، في مساحة جغرافية تمتدّ من محافظة حلب في الشمال إلى محافظتي درعا والسويداء في الجنوب، مروراً بمحافظات حماة وحمص ودمشق في الوسط، وصولاً إلى محافظتي اللاذقية وطرطوس على الساحل الشرقي للمتوسط.
تدفقُ الأسلحة الثقيلة والمتطورة على سورية سيقوّي عزيمة الأسد على تقديم الخيار العسكري، دحر الإرهاب، على الخيار السياسي، مفاوضات الحلّ الانتقالي. هو باشر، في الواقع، بتصعيد هجمات جيشه على «داعش» في منطقة تدمر كما في محافظتيّ الرقة والحسكة. إذا ما تمكّن من دحر «داعش» في هذه المناطق، سيذهب إلى طاولة المفاوضات قوياً وسيتمكن، بالتعاون مع المعارضة الوطنية المعتدلة، من طيّ مخطط تقسيم البلاد.
«إسرائيل» تبدو مُربَكة. تشعر بأنّ نفوذ أميركا، بعد الاتفاق النووي مع إيران، قد تقلّص. تداري ذلك بابتزاز واشنطن للحصول على أسراب من طائرات أف-35 المعروفة باسم الشبح، وانتزاع تعهّدٍ منها بعدم تزويد أي دولة أخرى في المنطقة بأيٍّ من هذه الطائرات البالغة التطور. غير أن هاجسها الأكبر يبقى حزب الله وإيران. فهي تخشى أن تستغلّ إيران وسورية الحضور الروسي المتنامي من أجل أن تسرّب للمقاومة مزيداً من الصواريخ البعيدة المدى والدقيقة التصويب. كما تخشى أن تتحسّب إيران لاحتمال قيامها، أي «إسرائيل»، بالاعتداء عليها فتسرّع عملية بناء منظومة المقاومة في هضبة الجولان بالتعاون مع حزب الله. لذلك تحرص «إسرائيل» على إقصاء حلفاء إيران العراقيين عن محافظة الأنبار في غرب العراق بالضغط على الولايات المتحدة لتحويلها إقليماً سنّياً بحكم ذاتي على غرار كردستان العراق، ليكون بمثابة إسفين جوسياسي يفصل سورية عن العراق وبالتالي عن إيران.
إيران تتحسّب للولايات المتحدة ولـ»إسرائيل» معاً. تشعر بأنّ أميركا تحاول استنزافها بحروب إقليمية لا تنتهي بغية تبديد مكاسب استردادها مليارات الدولارات المجمّدة خلال مرحلة ما قبل الاتفاق النووي، كما تشعر بأنّ مسارح استنزافها ستكون في العراق وسورية واليمن. لذلك تحرص طهران على شدّ أزر حلفائها مالياً وسياسياً وعسكرياً لتعطيل هجمات الولايات المتحدة و«إسرائيل» عليها في شتى المجالات.
تركيا تدرك أن سياستها المعادية لسورية قد ارتدّت عليها. ذلك أن أكراد سورية في شمالها الشرقي محافظة الحسكة ظلّوا على ولائهم لحزب العمال الكردستاني التركي المعادي لحكومة أردوغان، بالتالي قاتلوا «داعش»، حليف تركيا الظرفي، وأبعدوا مقاتليه عن مساحات واسعة من الحدود السورية التركية، ثم التقوا مع الجيش السوري، كلّ من جهته ولأسباب خاصة به، في التصدّي لـِ»داعش» بمعقله في محافظة الرقة. بذلك يتهاوى سيناريو أردوغان بإقامة إقليم حكم ذاتي لأكراد الحسكة السوريين خاضع لهيمنة أنقرة.
مصر، بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، نأت بنفسها عن تطورات الأوضاع وتعقيداتها في العراق وسورية واليمن، وحرصت على إبقاء أبوابها مفتوحة على القطبين الأميركي والروسي كما على مختلف دول المنطقة. يبدو أنها أقنعت أميركا بأنّ أجواء «الإخوان المسلمين» وثقافتهم تخدم تنظيمات الإرهاب ولا سيما في سيناء. ثم أن عدم انخراطها المباشر في حروب أميركا وحلفائها في المنطقة شجعت روسيا على تزويدها أسلحة ثقيلة ومتطورة، وكذلك فرنسا التي وافقت على بيعها حاملتي طائرات كانت بنتهُما لحساب روسيا.
إزاء هذه الخلفية من المواقف، يحاول السيسي استعادة دور مصر العربي والإقليمي بسياسة ومسار وسطيّين بين دول إقليمية ثلاث ذات تأثير ونفوذ وازنين هي إيران وتركيا و«إسرائيل». ولعله يراهن، في هذا السياق، على النجاح في بناء قوة عربية مشتركة تكون الذراع الأكثر فعالية في الساحات الإقليمية وذلك تفادياً لتدخلات الدول الكبرى.
لكن الولايات المتحدة و«إسرائيل» وتركيا ما زالت بعيدة عن القبول بهذه المقاربة الوسطية لعلاقات القوى في الشرق الأوسط الكبير.
(البناء)