دول أوروبية تنحني لسيل اللاجئين: أنقرة تلعب أمام فوهة المدفع! وسيم ابراهيم
تحت غطاء من تبادل الاتهامات، يبدو أن دول الاتحاد الأوروبي الحدودية قررت الانحناء أمام سيل اللاجئين. بدلا من اعتراض هذا السيل بالسدود، ما يعني اضطرابات وصدامات، فضّل الأوروبيون مساعدته على متابعة سيره. يعرفون أن الوجهة الأخيرة هي ليست دولهم، لذا بات من العبث إيقاف التدفق ما دام لن يتكدّس على أراضيهم. المجر باتت تتعاون مع كرواتيا على شحن اللاجئين غربا، إلى النمسا، باتجاه حلم «اللجوء الالماني». سلوفينيا تمرّر المئات من كرواتيا، وإذا تضخمت الأعداد، لأي سبب، تفكر سلطاتها باتباع الحل الكرواتي ـ المجري: إقامة ممر ترانزيت لنقل اللاجئين إلى حدود النمسا.
البوابة التركية بدأت تبثّ إشارات غامضة. إذا لم يكن الحادث الذي وقع هناك منفصلا، بلا سياق، فذلك سيعني تحولا مهمّا في «أزمة اللاجئن» كما تسميها أوروبا. ولمرة نادرة اعترض خفر السواحل التركي قارباً خشبياً يحمل نحو 250 لاجئا، معظمهم من سوريا والعراق.
زوارق الحرس التركي طوّقت المركب مانعة إياه من التقدم. الانتظار جعل المياه تتسرب إلى القارب، فمعظم القوارب التي يرسلها المهربون تسير بآخر نفس. غرق المركب، وتأخر خفر السواحل في الإنقاذ. تم انتشال 211 شخصا، نقلوا إلى مركز احتجاز جنوب تركيا.
أنقرة أنكرت تحملها أي مسؤولية، نافية الاتهامات التي ساقها العديد من الناجين. قالت إنها لم تحاصر المركب، ونفت أن تكون قد هددت بترحيل من عليه إلى بغداد ومعبر باب الهوى السوري. برغم هذا الإنكار، فإنّ محطات تلفزيون غربية استطاعت تصوير خفر السواحل يرمي طلقات تحذيرية.
ليس معروفا بعد إن كان الحادث يمثّل تحولا جديا في الموقف التركي. تحول الساحل التركي إلى ميناء شبه نظامي، يسيّر منه المهربون يوميات زوراق مكدسة باللاجئين وجهتها الجزر اليونانية الصغيرة. طوال الفترة الماضية تحدث الأوروبيون بحذر عن دور أنقرة، على اعتبار أن تركيا تتحمل «عبئاً كبيراً» لاستضافتها أكثر من مليوني لاجئ سوري. لكن ذلك لا يمنع إدراكهم التام أن سيل اللاجئين لم يكن ليتدفق لولا البوابة التركية المفتوحة، وبالتالي فإن إيقافه، كما يأملون ويضغطون، يحتاج تحركاً تركياً.
الحادث الغامض تزامن مع حادث غرق قارب صغير يقل نحو 50 لاجئا. مات غرقا 13 شخصا، بينهم أربعة أطفال، فيما تم إنقاذ 22 شخصا. بين المفقودين ثمانية أطفال لم تتجاوز أعمارهم 12 سنة. حوادث كهذه تسبب ضغوطا بدورها على السلطات التركية، فحوادث الغرق ما كانت لتقع لولا ازدهار نشاط المهربين تحت أعينها. منظمة الهجرة الدولية سجلت وقوع خمسة حوادث منفصلة، الاسبوع الماضي، أدت الى غرق نحو 80 شخصا.
السياسة الأوروبية لمواجهة «ثورة اللاجئين» لا تزال مزيجاً ارتجالياً: إغلاق معابر، تشديد الرقابة ثم التساهل، تبادل الاتهامات، ممارسة سياسة «النعامة»، إدارة سيل اللجوء بعيدا ليكمل إلى وجهته.
إغلاق المجر لحدودها مع صربيا جعل التدفقات تتجه إلى كرواتيا. الأخيرة مانعت في البداية، قبل أن تفتح بوابتها. على الفور بدأت سياسة «شحن» الآلاف الواصلة، من الحدود ومن العاصمة زغرب، إلى المنطقة الحدودية مع المجر. للوهلة الأولى ظهر أن الأمر سيؤدي إلى مزيد من التوتر. اتهمت المجر جارتها بأنها «تنتهك القوانين الدولية». حينما وصلت دورية شرطة كرواتية، كانت ترافق قافلة لاجئين، استقبلها جنود وعناصر أمن مجريون بطريقة استثنائية: جردوهم من أسلحتهم وأعادوهم إلى بلادهم.
الحكومة الكرواتية سارعت الى الإعلان عن عبثية سياسة جارتها. رئيس الوزراء زوران ميلانوفيتش اعتبر أن إجراءات المجر «غير مفهومة»، متسائلا عن مغزاها ما دام اللاجئون لا يريدون البقاء هناك. حكومته أعلنت منذ الجمعة أن الأعداد تفيض عن قدرة استيعاب مراكز اللجوء، لكن ميلانوفيتش استمر في اتباع سياسة عاقلة. جدد رفضه إغلاق الحدود مع صربيا، موضحا أنه «حتى لو كان ذلك ممكناً وفق الدستور، وهو ليس كذلك، فهذا سيعني قتل الناس».
التجواب المجري لم يخل من المفارقات. حكومة فيكتور أوروبان باتت تعيش نوعاً من انفصام الشخصية: تمارس التشدد إلى أقصى حد على الحدود مع صربيا، لكنها بدأت سياسة الانحناء لتدفق السيل العائد مجدداً من كرواتيا. بدل الصدام والإغلاق، قبلت المجر أن تنضوي في سباق التتابع لتوصيل اللاجئين. السلطات الكرواتية تنقل اللاجئين إلى الحدود المجرية، يعبرونها مشياً، ومن هناك تنقلهم باصات مجرية فوراً إلى الحدود مع النمسا.
هذا لا يغيّر استمرار إحكام إغلاق حدود المجر مع صربيا. هذه السياسة ربما يلخصها، ولو كاريكاتورياً، فيلم تهديدي نشره رئيس بلديه قرية «آشوتالوم» المجرية الحدودية. من رئيس وزرائه فيكتور أوروبان ليس مستغرباً عنه «الابتكار» على نفس منوال تشنيعه. تماما كما هي دعاية أفلام الـ «آكشن» الهوليودية، يتحدث لازلو تروكزاكي، رئيس البلدية الشاب، وسط هدير موسيقى ملحمية وجئير الدراجات النارية لرجال شرطته. ينذر اللاجئين بتطبيق القوانين الجديدة، منذ 15 الحالي، التي تجرّم الدخول من غير المعابر الشرعية مع عقوبة سجن تصل لثلاث سنوات.
يعرض خريطة يخترقها خط سير عريض، لا يمر عبر المجر، مردداً بخشونة مصطنعة: «إذا كنت مهاجراً غير شرعي وأردت الذهاب إلى ألمانيا، فالرحلة الأقصر هي من صربيا عبر كرواتيا وسلوفينيا، لا تثق بمهربي البشر الكاذبين: المجر هي خيار سيئ، آشوتالوم (قريته) هي الخيار الأسوأ». لزيادة جرعة «الترهيب»، يصرّ رئيس البلدية على اختتام فيلمه واقفاً بنظاراته الشمسية، وخلفه تنتشر مجموعة من عناصر شرطته مع دراجاتهم النارية.
أمام تعاون كرواتيا والمجر لتمرير السيل إلى حدود النمسا، تقف حكومتها عاجزة. الآلاف يواصلون العبور، فيما اتهمت وزيرة داخليتها جارتيها بـ «انتهاك القوانين الأوروبية».
وسط أجواء الارتجال لم يظهر انفراج جديّ يشير إلى اتفاق الأوروبيين على «مجرى موحد»، ينظم تدفق سيل اللاجئين. الخطة المقترحة من بروكسل لا تزال خطوطها واضحة: توزيع اللاجئين عبر نظام «الحصص»، إقامة مراكز استقبال ضخمة في اليونان وايطاليا والمجر، سياسة ترحيل سريعة لمن ستُرفض طلبات لجوئهم باعتبارهم «مهاجرين اقتصاديين».
الدول الرافضة لنظام الحصص «الإلزامية» لم تغير موقفها، تتصدرها المجر وسلوفاكيا والتشيك وبولندا. لمعرفة إمكانية التسوية، وأين سترسو، يجب انتظار الاجتماع الطارئ لوزراء الداخلية الأوروبيين غداً، وقمة الزعماء الأوروبيين في اليوم التالي.
الجديد في الاستجابة الأوروبية هو محاولة تشجيع دول الجوار السوري على «احتواء» السيل. بروكسل قررت رصد قرابة مليار يورو «لتشجيع اللاجئين في تركيا على البقاء هناك»، كما قال مفوض الجوار يوهانس هان. في السياق ذاته، ألمانيا والنمسا وجهتا نداءً دولياً لجمع خمسة مليارات يورو إضافية، تخصص لدعم اللاجئين في لبنان والاردن.
لم يعرف بعد إن كانت الدولتان ستبادران لتنظيم مؤتمر مانحين، أم ستتركان الأمر للأمم المتحدة. لكن هذا التعويل دونه صعوبات ليست قليلة. قبل كل شيء هناك عزم سيل اللجوء. ربما تعول الدول الأوروبية على اقتراب سوء الأحوال الجوية، المتوقع بدء انقلابه بعد أسابيع. بروفة صغيرة حصلت حينما واجه اللاجئون المطر على معبر بيريمند، على الحدود الكرواتية المجرية. صحيح أن قسوة الشتاء ستؤثر، لكن ليس معروفاً إن كانت ستبرّد عزيمة اللاجئين في ظل ازدياد وهج الوصول للنهاية السعيدة!
عشرات آلاف الواصلين ستجعل الدعاية لجنة «اللجوء الالماني» أضعافاً، بمعية وسائل التواصل الاجتماعي. محاولات الصد ثبت أنها لا تنفع مع الهاربين من الحرب، ومهانة لجوء دول الجوار، بحثاً عن «النجاة المشرفة». تظاهرات «ثورة اللاجئين» كانت تندلع فور أي صدّ، وحتى لو غيرت تركيا موقفها فليس مؤكداً نجاحها. مفاعيل اللعب بهذه القضية بدورها ليست دائما تحت السيطرة. كل ما ستفعله أنها ستضع نفسها، هذه المرة، أمام فوهة المدفع!
(السفير)