مظلّة سياسية لـ«ضبط الشارع».. بالقوة ملاك عقيل
نَجَت مواكب الشخصيات المشاركة في حوار ساحة النجمة من رشق البيض والبندورة، وتمكّن أقطاب الحوار العقيم من الالتقاء مجدداً، لكن الكلفة كانت غالية!
بين التاسع والعشرين من آب والسادس عشر من ايلول اختلف المشهد الأمني كلّيا. السلطة السياسية التقطت أنفاسها، فانتقلت من الدفاع الى الهجوم. وفيما كانت «الداخلية» تجاهر برفض «شيطنة» قوى الأمن، عمدت الأخيرة أمس الى «شيطنة» دور بعض المتظاهرين فقامت، عبر ذراعها الأمنية، بحملة توقيفات وملاحقات هي الأكبر منذ اندلاع الحراك المدني.
وسريعاً حضرت القراءة السياسية. وسط هواجس حقيقية من انفلات لعبة الشارع، والاستدراج الى لعبة الدم فالانفجار غير المحسوب النتائج، وفيما تمضي الحكومة في مشروعها لتطبيق خطة النفايات بـ «التي هي أحسن» وسط مراوحة فاضحة في مسألة الحوار، صدر القرار السياسي بضبط الشارع، فوجدت القوى الأمنية نفسها في مواجهة «مطلوبة وضرورية» ليس مع المتظاهرين بل مع «المحرّضين ومثيري الشغب وقاصدي التخريب»، كما تقول أوساطها.
لكن ذلك لم يلغ السؤال الاكبر. ما الذي تغيّر بين جلستي الحوار الاولى والثانية الذي استدعى هذا الاستخدام المفرط للقوة مقابل الأوامر الصارمة السابقة بضبط النفس؟ هل كان القرار سياسياً فعلا أم أمنياً محضاً؟ واستطرادا ما هي تأثيراته على تدحرج كرة ثلج الاعتراض الشعبي؟ ولماذا غاب وزير الداخلية تماما عن الشاشة أمس وحضر بيان «ناقص» لمديرية قوى الامن لا يرد على سيل الاسئلة المطروحة؟
عشية يوم الحوار، في جولته الثانية، صدرت الأوامر بالاستنفار وإعلان الجهوزية والتوزّع على نقاط المحاور الست وفق الخطة المرسومة، في نسخة كادت تكون شبيهة بالاستعدادات التي واكبت جلسة الحوار الاولى في التاسع من ايلول، ما عدا فارق أساسي هام: غياب جبال الاسلاك الشائكة في النقطة الاساسية التي دعا الحراك المدني للاعتصام أمامها قبالة مبنى النهار.
بقعة العزل امتدت من حدود رياض الصلح ـ شارعي فوش واللنبي من جهاتها الشمالية والجنوبية والشرقية ـ الخط الممتدد من تقاطع البطريرك الحويك حتى تقاطع اللواء فرنسوا الحاجـ- شارع ويغان ـ تقاطع باب ادريس ـ تقاطع احمد الداعوق (بنك عودة).
ومجددا تمّ التشديد على منع استعمال السلاح بالرصاص الحيّ او الرصاص المطاطي او استخدام القنابل المسيّلة للدموع او المياه.. إلا بناء لأوامر من المدير العام لقوى الامن الداخلي اللواء ابراهيم بصبوص شخصياً.
وفيما بات من التعليمات الروتينية التي تدرج ضمن خطة التنسيق ويؤخذ بها العلم من جانب القوى المشاركة في ضبط الأمن (شرطة بيروت والقوى السيارة)، فقد أفيد بأن الجيش سيقوم بتعزيز نقاطه الموجودة حول بقعة انتشار القوى الأمنية وسيقوم بالتدخل عندما تدعو الحاجة القصوى الى ذلك، خاصة لحماية المسالك المحددة لمرور الشخصيات المشاركة في الحوار، لكن رغم كل الفوضى الأمنية وعمليات الكرّ والفرّ أمس بين المتظاهرين و «مكافحة الشغب»، ومن ثم بين المتظاهرين وبعض المندسين، وتوسّع الاحتجاجات والملاحقات الى خارج بقعة العزل، فقد بقي الجيش بمنأى تماما عن هذا المشهد مكتفيا بتعزيز تواجده في المحيط البعيد عن بقعة عمل قوى الامن.
لكن أوامر الليل أضيف اليها أمر صباحي غيّر كل الموضوع. فخلافا لتعليمات عدة واكبت الحراك المدني منذ بدء تحرّكاته في الشارع، صدرت أوامر صريحة الى القطعات المعنية بتوقيف كل مثيري الشغب والفوضى والمعتدين على القوى الامنية، واستعمال الحزم في ضبط الشارع ومنع إقفال الطرقات ومعترضي المواكب.. ولو بالقوة.
وتفيد معلومات في هذا السياق أنه، ومنذ حراك الثاني والعشرين من آب، بدأ العمل الامني الصامت حيث جرى رصد لبعض الوجوه التي صنّفت في خانة «الوجوه المحرّضة على الشغب» وتدريجا صار لدى الامنيين «داتا» شبه كاملة عن «مثيري الفوضى»، وهذا ما يفسّر حصول أمرين أمس: التوقيفات لم تحصل بـ «الجملة» بل طالت متظاهرين محدّدين تخطوا «المسموح» في التظاهرات ما أدى الى حصول ملاحقات فردية لبعض الاشخاص. ومن جهة ثانية أن التوقيف طال أيضا المضربين عن الطعام، ممّا يفسّر البعد الذي اتّخذه القرار الصادر بقمع كافة مظاهر التمرّد، خصوصا تلك التي تصوّب بشكل مباشر على الحكومة او وزراء فيها.
وعلى هامش يوم المواجهات العنيف الذي قد يكلّف السلطة السياسية والامنية المزيد من ردّات الفعل المكلفة لها وللمتظاهرين، سجّلت الملاحظات الاتية:
ـ لم يتعد قرار السلطة بالايعاز الى القوى الامنية بتوقيف «المشاغبين»، بل إن بيان طاولة الحوار الذي بدا «من غير كوكب» والسكوت المريب للغالبية العظمى من السياسيين عن إبداء اي ردّة فعل حيال عنف الشارع، فإن كل ذلك يشي بأن هذه السلطة تسعى الى إعادة الشارع الى ما كان عليه قبل «ثورة النفايات» عبر إزالة كل مظاهرها وتطويق رموزها، لكن على ما يبدو فإن النتائج عكسية. وأولى ردّات الفعل تظاهرة رياض الصلح.
ـ بدا ان القرار الذي يتحمّل مسؤوليته بشكل أساس الوزير نهاد المشنوق، والمغطّى حكومياً، سيفتح أبواب التصعيد المباشر بوجه وزير الداخلية. فضبط الشارع ترافق مع سلّة من الاخطاء والارتكابات بحق المتظاهرين التي سيصعب التخفيف من تأثيراتها، فيما يتساءل بعض رموز الحراك إذا كان المشنوق الذي اصدر الاوامر بضبط الشارع سيعمد الى «معاقبة» من قام بتنفيذ أوامره!
ـ المطالبة باستقالة وزير البيئة محمد المشنوق حتى اليوم لا تزال من دون أفق. وتقول أوساط معنية إن استقالة المشنوق ستعني استقالة لرئيس الحكومة نفسه. وما يصعب فرضه على وزير البيئة لن يكون بالامكان فرضه على وزير الداخلية في حال توسّع بيكار المطالبة باستقالة الاخير.
ـ يشكّك كثيرون في ان الحزم الامني الذي استخدم على نطاق واسع يوم أمس سيكون الوسيلة الناجعة لاتقاء غضب الشارع في المرحلة المقبلة او حتى «تنفيسه»، فأغلبية الموقوفين يتمّ الافراج عنهم تدريجا، في وقت يجاهر فيه أهل الحراك بأن العنف لن يكون إلا المحفّز للمزيد من الضغط على الحكومة والسلطة.
(السفير)