حرب أردوغان «النظيفة»: انقلاب الحسابات د.محمد نور الدين
ليست هناك من عبارة تختصر المشهد الدموي الراهن في تركيا أبلغ من تلك التي قالها زعيم حزب «الحركة القومية» دولت باهتشلي بُعَيد عملية «حزب العمال الكردستاني» ضد الجيش التركي في منطقة داغليجه على الحدود مع العراق، والتي أسفرت عن مقتل 16 ضابطاً وجندياً تركياً.
استغرب باهتشلي تأخّر الحكومة ورئاسة الأركان في الإعلان عن عدد الضحايا، برغم مرور 30 ساعة على بدء العملية العسكرية. ومع أنه العدو الأول للنزعة الكردية في تركيا ولـ «حزب العمال الكردستاني» تحديداً، فقد وجه باهتشلي سهام المسؤولية عما حدث الى رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان بالذات.
وتساءل باهتشلي «هل أردوغان، الذي لم يستطع أن يحقق 400 نائب، غيّر الهدف ليصل بعدد الشهداء الى 400 شهيد بحيث يضمن الجلوس على مقعده بالدم؟».
بيان باهتشلي مليء بالتوصيفات عالية النبرة، ومنها أن أردوغان صيّاد غنائم وغير مسؤول، وهذه لطخة سوداء على جبينه.
وقال إن أردوغان قد كسر الرقم القياسي لجهة انعدام الضمير وعليه «إما أن يقطع لسانه أو أن يترك موقعه».
بيان باهتشلي الذي ألحقه بمواقف أخرى لم يركّز على «حزب العمال الكردستاني» بقدر ما حمّل أردوغان شخصياً مسؤولية الدم الذي يُراق، بل إنه دعا، وهو القومي التركي الأكثر تشدداً، الى إخماد نزعة الاستقطاب الاثنية التي تهدّد بحرب أهلية في تركيا.
بعد بدء الحرب الحكومية على الأكراد و «حزب العمال الكردستاني»، تساءل العديد من الكتاب عن حجم الدم المطلوب إراقته والدموع المطلوب إدرارها من أجل كسب اردوغان بعض الأصوات التي يرى أنها قد تعيد «حزب العدالة والتنمية» الى السلطة منفرداً في انتخابات الأول من تشرين الثاني المقبل.
ثلاثة احداث أساسية حصلت خلال أقل من أسبوع بين 20 و25 تموز الماضي، وهي إعلان أردوغان الحرب على الأكراد، وإطلاقه حملة عسكرية ضد تنظيم «داعش»، وفتح قاعدة إينجيرليك امام الطائرات الأميركية. ثلاثة احداث حصلت بعد انتخابات السابع من حزيران الماضي ولم تحدث قبلها. أحداث حصلت من دون أن يكون طرأ أي تطوّر دراماتيكي يبرر حصولها.
فلا «داعش» هاجم تركيا، وحتى الآن لم يعلن مسؤوليته عن تفجير سوروتش، ولا مقتل جندي تركي على يد مقاتلين أكراد كاف ليبرّر كل هذه الهجمات المكثفة على قواعد «حزب العمال الكردستاني في شمال العراق»، ولا واشنطن وافقت على منطقة عازلة في سوريا لكي تقدم تركيا كل هذه التنازلات للولايات المتحدة.
اما بالنسبة الى «داعش»، فقد كشف أردوغان أنه لا يراه خطراً داخلياً، لأنه تهديد خارجي بينما «حزب العمال الكردستاني» تهديد داخلي، لذا فهو التهديد الأول لتركيا فيما «داعش» يقع في المرتبة الثانية، علماً أنه إذا أحصينا خصوم أردوغان وتهديداتهم، فسوف يأتي «داعش» في المرتبة العاشرة، وقد لا يجد التنظيم المتشدد حتى مكاناً له في القائمة.
اولويات أردوغان واضحة: الأكراد أولاً وأخيراً. أما المبرر أكثر وضوحاً، فهو قمع الأكراد لاستنهاض نزعة قومية قد تعيد له بعض الأصوات التي خسرها في انتخابات فرضها ولم يكن أحد يريدها حتى رئيس الحكومة احمد داود أوغلو.
قبل أيام، قال أردوغان: «لو أنّ حزب العدالة والتنمية حصل على 400 نائب لما كان الوضع اضطرب على ما هو عليه الآن».
قبل الانتخابات النيابية الأخيرة كان يقول «أعطوني 400 نائب وخذوا الاستقرار والرفاهية».
لم يعط الناخب التركي أردوغان ما يريد، فكان الانقلاب على نتائج الانتخابات. وبدلاً من التعوّد على ثقافة الائتلافات الحكومية، أعلن أردوغان عن إجراء انتخابات نيابية مبكرة في الأول من تشرين الثاني المقبل.
وبالأمس كان زعيم «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار أوغلو يقول لأردوغان «إذا نجحت في إنهاء الإرهاب فسوف أكمل لك أنا الأربعمئة نائب».
دائماً الأكراد كانوا الضحية عبر التاريخ. اليوم يريد أردوغان أن يتسلق الدم الكردي للوصول الى حكم مطلق. وبالأمس فعل أسلافه الأمر نفسه.
نظلم أردوغان إذا حصرنا الكراهية للأكراد فيه، فكل الأنظمة والسلطات السابقة كانت شريكة في إنكار الهوية الكردية، ومن ثم في سفك الدم الكردي، من أتاتورك العلماني الى خلفائه، مروراً باليمين واليسار العلماني والأحزاب الوسطية المحافظة، وصولاً الى الإسلاميين. العسكر تذرعوا بالأكراد للقيام بانقلابهم العسكري في العام 1980، وبولنت اجاويد ضغط على سوريا في العام 1998 ليستفيد لاحقاً من خطف واعتقال زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبدالله اوجلان من ملجئه في كينيا في العام 1999، فيكسب الانتخابات التي حصلت في العام ذاته.
اليوم يدرك اردوغان أن الذي هزمه في انتخابات حزيران الماضية كان الأكراد أنفسهم عبر «حزب الشعوب الديموقراطي»، الذي نال معظم النواب التابعين للمناطق الكردية واليسارية، بعدما كان أردوغان يستولي عليها بفعل عدم نيل الحزب الكردي عشرة في المئة.
تخفيض نسبة التأييد للأكراد في الوسط الكردي يمكن أن يتحقق، وفق أردوغان، عبر ترهيب القاعدة الكردية بالاعتقالات وإراقة الدماء من جهة، وشدّ العصب القومي التركي من جهة ثانية.
أنهى أردوغان عملية المفاوضات بالقول إنها «أصبحت في الثلاجة» و «انتهت». لم يكتف بذلك بل باشر بشنّ غارات مكثفة على قواعد «الكردستاني» في شمال العراق، قائلاً إن المعركة لن تنتهي قبل أن يلقي «حزب العمال الكردستاني» سلاحه أو يدفنه تحت الأرض، ويصبّ عليه الإسمنت، فيما توعّد داود اوغلو بتنظيف الجبال من «إرهابيي» الكردستاني.
ولكن لو أن أردوغان نجح في البقاء منفرداً في السلطة في الانتخابات الماضية لكال المدائح لعملية المفاوضات مع الأكراد ولم يكن ليضعها في الثلاجة أو يعتبرها منتهية. الدليل الأبرز على ذلك أن أردوغان اعترف، بعد عملية داغليجه الأخيرة، بأن «حزب العمال الكردستاني» استغل فترة المفاوضات التي استمرت سنتين ونصف السنة تقريباً لكي يكدس الأسلحة التي قدرتها صحيفة «صباح» بـ 80 ألف قطعة سلاح. ولو أن اردوغان لم يفشل في الانتخابات الماضية لما كان معترضاً على هذا «التكديس» بل إنه كان ساكتاً عليه ما دام كان يخدم مصالحه.
وإذ كانت الصدمة الكبرى في الانتخابات، قلب أردوغان الطاولة رأساً على عقب متبعاً استراتيجية كسب الأصوات عبر تحويل تركيا الى بحيرة من الدماء.
يفصلنا عن موعد الانتخابات حوالي الشهر وثلاثة أسابيع. هو وقت قصير مرشح لكي يشهد الكباش الدموي بين سلطة أردوغان والأكراد المزيد من التصعيد، فـ «حزب العمال الكردستاني» وجد نفسه مجدداً في مواجهة آلة الموت العسكرية ومضطراً للدفاع عن نفسه، خصوصاً أن الحكومة التركية لم تقدم للأكراد أي شيء، ولو في الحد الأدنى. ويدخل الأكراد في امتحان كسر العظم العسكري بعدما أثبتوا حضورهم السياسي في البرلمان، لذا فإنهم يريدون حماية المكاسب السياسية التي أحرزوها وتحصينها بمحاولة الفوز ولو النسبي في المنازلة العسكرية. وبقدر ما يلحقون ضربات مؤلمة للقوات العسكرية والأمنية التركية بقدر ما يثبتون لأردوغان أن الطموحات الشخصية لا تكون عبر اللعب بالدم الكردي. لذا فإن الأكراد لم يفوتوا سانحة إلا واستغلوها لإلحاق أكبر الأذى بالقوات المسلحة التركية. ويكاد لا يمر يوم من دون عملية عسكرية ضد الجيش التركي، ومن دون تكاثر أعداد القتلى من القوات المسلحة التركية.
في المقابل فإن استراتيجية ضرب قواعد «حزب العمال الكردستاني» لن تحقق أهدافها إطلاقاً، فما عجزت عنه الحكومات السابقة في ذروة تراجع «حزب العمال الكردستاني» لن تستطيع سلطة أردوغان الحالية تحقيقه في ظل صعود الحالة الكردية المسلحة في الشرق الأوسط، والحالة الكردية السياسية في الداخل التركي.
ولعل أردوغان كان يظن أنه بإمكانه شن حرب «نظيفة» ضد «حزب العمال الكردستاني» بمعنى توجيه الضربات الى الحزب الكردي، وفي الوقت ذاته اتخاذ تدابير عسكرية تحول دون قيام مقاتليه بعمليات نوعية وكبيرة ومؤلمة. وفي هذا الإطار غاب عن بال الكثيرين أن السلطات التركية الأمنية والقضائية اعتقلت الكثير من القيادات الكردية ورؤساء البلديات وفرضت حظر التجول في العديد من المدن لأوقات مختلفة، ومنها كبرى المدن الكردية ديار بكر. وليس أكثر تعبيراً من تلك الصورة التي تعكس رئيس «حزب الشعوب الديموقراطي» صلاح الدين ديميرطاش ونواب آخرين من الحزب وهم يُمنَعون من دخول مدينة جزره، التي يحاصرها الجيش التركي ويقوم بعمليات عسكرية داخلها، فما كان من ديميرطاش ورفاقه إلا افتراش الصخور المجاورة.
وقد وصف ديميرطاش الوضع في مدينة جزره المحاصرة بأنه «كربلاء جديدة» وغزة ثانية، فيما سار الآلاف من سكان المنطقة المحيطة بجزره تتقدّمهن النساء في اتجاه المدينة لفك الحصار عنها وعمليات القتل داخلها.
أما الضغوط السياسية فلا تتوقف وآخرها فتح تحقيق بحق ديميرطاش نفسه بتهمة دعم الإرهاب وتحقير رئيس الجمهورية.
وفي هذا الإطار أيضاً يأتي التصويب على الغرائز الدينية بقول برهان قوزو، مستشار أردوغان والرئيس السابق للجنة الدستورية في البرلمان التركي، إن عدداً كبيراً من المقاتلين الأكراد ليسوا مختونين، داعياً الى الكشف على جميع القتلى والأسرى الأكراد الذين وقعوا بيد الدولة في هذه الناحية! فهل يُعقَل أن يصل الأمر برجل قانون إلى هذا الحدّ من العبث بالغرائز؟
لم تجر الرياح بما تشتهي سفن أردوغان، فكانت الغارات الجوية على شمال العراق بلا معنى فعلياً، بل إن «حزب العمال الكردستاني» بادر الى توجيه ضربات نوعية جداً ضد الجيش التركي كما حصل في داغليجه وإيغدير. وما لفت في هذه العمليات أنها لم تكن وجهاً لوجه بل عن طريق عبوات ضخمة زرعت الى جانب طريق القوافل العسكرية وتمّ تفجيرها عن بعد، ومن ثم استهداف هذه الآليات بالقذائف والصواريخ من بُعْد نسبي. وهذا التكتيك يوفر على «حزب العمال الكردستاني» خسائر بشرية في ظل توزيع مقاتليه في سوريا لمحاربة «داعش»، وفي شمال العراق وفي جنوب شرق تركيا. وهو يعكس أيضاً في المقابل ضعفاً في الاستخبارات التركية.
وقد شكلت هذه الهجمات أيضاً ضربة معنوية لرئيس الأركان الجديد خلوصي آقار، الذي بالكاد كان يتسلم موقعه الجديد حتى عاجله المقاتلون الأكراد بهذه «الهدايا». كذلك فإن هذه الهجمات جاءت رداً على مذكرة الحكومة التركية التي صوّت عليها البرلمان للتدخل في سوريا والعراق عند الضرورة لمحاربة «الإرهاب» الكردي و «الداعشي».
رهان أردوغان على الحرب ضد الأكراد لكسب أصوات إضافية من القوميين قد لا تصحّ، إذ إن هذا العدد الكبير من قتلى الجيش التركي سيجد من يسأل عن السبب في هذا الكم من الضحايا ولمصلحة مَن ولحساب مَن، فيما الكل يشير بإصبع الاتهام الى أردوغان وحساباته الانتخابية والرئاسية. ليس ذلك فقط بل إن تدهور الوضع الاقتصادي بلغ مراحل سلبية جداً، وأبرز مظاهره انهيار سعر صرف الليرة امام الدولار، ليصل الى أكثر من ثلاث ليرات مقابل الدولار الواحد. كما أن كل الأرقام الاقتصادية تشهد مؤشرات سلبية غير مسبوقة مع ازدياد التضخم وذوبان قيمة الرواتب والأجور.
يكاد معظم المراقبين والزعماء السياسيين يرون أنه لو تمّ تشكيل حكومة ائتلافية بدلاً من الذهاب الى انتخابات نيابية مبكرة لكان الوضع مختلفاً جداً عما هو عليه الآن، لجهة تفادي الصدام بهذه الطريقة مع الأكراد، ولجهة تحسين الوضع الاقتصادي، لذا فإن رهانات أردوغان قد لا تصح وقد تنقلب عليه فتنتقل الأصوات، في ظل هذا الكم من القتلى العسكريين الذي يعكس فشله في محاربة الإرهاب، ليس من حزب «الحركة القومية» الى «حزب العدالة والتنمية» بل بالعكس… وفي جميع الأحوال فإن تفاقم الأوضاع وانتشارها على مساحة البلاد بمدنها وطرقاتها والهجمات أيضاً على الصحف المعارضة وآخرها «حرييت» لن يفضي، بتحذير معظم المراقبين، سوى إلى حرب أهلية تحرق البلاد كرمى للواقف على شرفة روما!