عن الحراك والصورة الإعلامية
غالب قنديل
يعيش لبنان إعلاميا محاكاة نسبية ليوميات ما سمي بالربيع العربي ومنذ أسابيع تكثفت التغطيات الإعلامية المفتوحة التي يغلب عليها الاختيار المتقن لوجوه ورموز معينة يتكرر ظهورها غير المعتاد في الحوارات التي تحتل مساحات رئيسية من البث التلفزيوني والإذاعي بينما تمارس بعض المؤسسات بواسطة مندوبيها ومذيعيها دور الناطق الإعلامي بلسان ثورة افتراضية بلغة لا تغيب عنها المبالغة ولا يعوزها التحريض المباشر.
أولا الترويج السياسي لشعارات معينة في التحركات الاحتجاجية هو أحد عناصر المشهد الإعلامي اللبناني منذ انطلاق الدعوات إلى التظاهر وهذا التصرف الذي غلب على اداء بعض المؤسسات الإعلامية يخرج عن موضوعية الأداء المهني في التغطية والمعالجة الإعلامية للحدث خصوصا عندما تتعامل المؤسسة الإعلامية مع الوقائع بلغة الموقف المسبق وعندما ترفع الإذاعة اوالقناة التلفزيونية شعارات تحريضية تدعو الناس إلى التظاهر في الشوارع والساحات تلبية لدعوة صادرة عن جهة معينة وتحت عناوين محددة فهذا سلوك لا يمكن وصفه بالمهنية او بالموضوعية بل هو تدخل مباشر وهجومي في صناعة الحدث وعندما تستخدم القناة التلفزيونية نفسها تعابير وتسميات لوصف الأحداث مبنية على ممارسة التحريض ضد السلطات والمؤسسات القائمة وتضيف نعوتا تنطوي على تحقير او اتهام لشخصيات او مؤسسات فذلك يعد خرقا لجميع القوانين والأنظمة السارية ومخالفة للقواعد التي نالت على أساسها الترخيص ولا سيما القانون 382 / 94 ودفاتر الشروط النموذجية .
من المفارقات المثيرة للتساؤل والشك ان تصبح المنابر المكرسة منذ زمن للتحريض الفئوي السياسي والطائفي منصات لإشعال الثورة الشعبية ولدعوات إسقاط النظام فهو تحول غير عفوي وان تتلبس المؤسسات التي كرست هواءها السياسي للترويج لأركان الحكم ورموزه منذ أكثر من عشرين عاما بصورة غير مجانية طبعا صورة النطق بلسان ثورة تكتسح الأخضر واليابس فهذا مشهد سوريالي لا ينطلي على العاقل ولا يكسبه مصداقية انتقال بعض المقدمين من استعراضاتهم المعتادة والمملة إلى رشقات مقززة من الكلمات البذيئة والمبتذلة على الهواء مباشرة لمماشاة ” زمن الثورة ” !
ثانيا رفعت ملصقات في بعض الاستديوهات التلفزيونية تشكل بذاتها خرقا للقانون وتورطا في أفعال تحريضية كالملصق الذي يضم صورة للمجلس النيابي مصحوبة بعبارة “نفايات سياسية” او الملصق الذي يضم صور القيادات السياسية الرئيسية في البلاد مرفقا بعبارة “كلكن يعني كلكن” فلهذه المشاهد التحريضية وظيفة معينة وهي صياغة الرأي العام وأخذه في اتجاه محدد باستثمار تفاقم المعاناة الناتجة عن أزمة النفايات لجر الشارع في اتجاه سياسي محدد ولدى التدقيق بمصدر تلك الشعارات يتبين انها المجموعات المرتبطة بالإنجيؤز وبالسفارات الغربية ضمنا او بمجموعة عزمي بشارة التي تردد انها تولت تصميم وطبع بعض الملصقات وعندما ظهرت صورة الحراك الجماهيري تقلصت ادوار تلك الجماعات وبانت على حقيقتها لكنها في نظر الوسائل الإعلامية ذات القناع الثوري ما تزال هي القيادة التي تتركز عليها النسبة الغالبة من الأضواء فهل ذلك هو فعل عفوي غير مقصود؟!.
عسر الهضم الذي يشعر به المشاهد الطبيعي ناتج عن صعوبة تصديق انقلاب تلك المؤسسات ببراءة ونتيجة صحوة ضمير على صيغة الحكم التي أنتجتها ووظفتها لحسابها طويلا فمعظم المؤسسات المرئية والمسموعة في لبنان كانت جزءا من صيغة التقاسم والمحاصة المهيمنة في السلطة وقد تورطت في الترويج لتلك الصيغة والاحتماء بها وهي تبعد نفسها عن المساءلة التي تدعو إلى تعميمها وما تسرب عن تمويلها الخليجي ليس سوى النزر القليل وقد خرجت للتو من دور تحيط به الشبهات في تسويق رموز التكفير والإرهاب وممارسة التحريض الطائفي والمذهبي ولعبت ادوارا بالغة الشبهة في تخديم التورط اللبناني بالعدوان على سورية طيلة السنوات الخمس الماضية وطغت على ما تبثه لغة التحريض والانحياز السياسي منذ العام 2005 .
ثالثا عطلت سلطة التقاسم والخصخصة التي قادتها الحريرية آليات المحاسبة القانونية في جميع المجالات ومنها المرجعيات الناظمة للقطاع الإعلامي وما نعيشه من فوضى وتخبط في هذا المجال هو الحصيلة وكما ظهرت محاولات لاستفراد بعض المؤسسات الإعلامية لتصفية حسابات سياسية صدها المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع ورفض تغطيتها ونجح احيانا في منعها فلطالما ظهرت تدخلات سياسية محلية وخارجية لمنع محاسبة بعض المؤسسات المحظية ومساءلتها حتى عندما تورطت في التحريض على الفتنة الداخلية وبثت موادا إعلامية كادت تحرق البلاد عن بكرة أبيها والأمثلة كثيرة يكفي طرح الأسئلة عن ترويج ظاهرة الشيخ احمد الأسير وإعطائه مساحات وافرة من التغطية او عن الأربعاء الأسود وسر تراجع الرئيس السابق ميشال سليمان عن طلبه إلى وزير الإعلام السابق والمجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع إجراء محاسبة صارمة على ناقلي الأخبار الأكاذبة حول رهائن أعزاز ومروجيها إعلاميا والذين كادوا يتسببون بإشعال فتنة كبرى وهم انفسهم قاموا قبل ذلك بترويج سياحي لصورة الخاطف الإرهابي أبو ابراهيم الذي أمعنوا في مديح أخلاقياته العالية ( إكرام الضيف وإغاثة الملهوف ) وتردد كلام كثير عن جهات خليجية ومحلية غطت تكاليف السفر والبث والانتقال للفرق تلفزيونية في الذهاب والإياب وبتسهيلات تركية أمنها الرعاة الممولون.
من اخطر مظاهر التغاضي السياسي المقصود عن فوضى الأداء الإعلامي المخالف للقانون تعطيل العمل بمواد الرقابة المالية على مداخيل المؤسسات المرئية والمسموعة المرخصة التي تدخل حصرا في صلاحيات وزير الإعلام وفقا لنصوص القانون ولاسيما المادتين الخامسة والأربعين والسادسة والأربعين وهذا التغاضي هو جزء لا يتجزأ من صيغة الحكم ونظامه الإعلامي ولمن ينادون بإسقاط النظام ألا يتجاهلوا هذه الحقيقة.