تلاعب بالتقارير الاستخباراتية لتغطية سياسة الاحتواء لا القضاء على داعش د.منذر سليمان
الاستخبارات .. امتداد للسياسة بوسائل قذرة
استدارت واشنطن ودوائرها السياسية الى داخل مركز صنع القرار عقب “اكتشاف” تطويع مضمون واستنتاجات تقارير استخباراتية، عسكرية الطابع، تصب في خدمة توجه الادارة الاميركية الراهن بأن غاراتها الجوية ضد تنظيم الدولة الاسلامية تؤتي أكلها وتمضي قدما بتحقيق انجازات.
صراع الاجنحة المتعددة في القرار الاميركي ليس وليد اللحظة او محصور برئيس معين، بل لازمة رافقت كافة الرؤساء الاميركيين منذ الحرب العالمية الثانية بالتزامن مع تنامي دور “المجمع العسكري الصناعي” واجنحته المالية والاعلامية، في صياغة القرار السياسي والاستراتيجية العامة، منذ الحرب الاميركية على فيتنام تحديدا.
تم الترويج لجذر الأزمة الاخيرة انه يخص “دقة وصوابية المعلومات الاستخباراتية” لاعانة الرئيس اتخاذ قراراته خدمة للاستراتيجية العامة، وحصر لب النقاش في داخل اروقة واشنطن من قبل الاطراف المعنية. واقصى ما ترمي تحقيقه ادخال بعض الاصلاحات على آليات وهيكل الاجهزة الاستخباراتية، في المحصلة العامة “درءاً لمزيد من الاحراج والارباك” للمؤسسة الحاكمة.
في هذا الصدد، وعقب توجيه الادانات والاتهامات المباشرة للرئيس السابق جورج بوش الابن ونائبه ديك تشيني، حذرت دورية “فورين افيرز” المرموقة من التسطيح وثنائية الخيارات وتسييس المسائل “اذ ان الخيارات الحقيقية الصلبة نجدها في تلاوين رمادية متعددة، واعتماد اصلاحات متسرعة قد تضر اكثر ما تنفع.” واضافت انه ينبغي الالتفات الى تعزيز واعلاء “المنطق السليم وسويّة التوجه وسلامة الحالة النفسية لكبار المسؤولين .. بينما اسهمت الاصطفافات الحزبية في حصر الازمة ضمن حدود مقبولة بشكل عام.” (عدد ايار/حزيران 2004)
المرور على بديهيات موضوعية تستند الى الاعتماد الصارم على الحقائق دون سواها من اعتبارات لا يضيف جديدا، مع ادراك كل من يعمل بالشأن العام ان “التقارير” تصاغ ويتم تطويعها لتصب في خدمة اهداف سياسية محددة لصانع القرار، مؤسسة او منصبا رئاسيا.
في الحالة الراهنة، تم تسليط الضوء، وبالتالي المسؤولية، على هيئة “القيادة المركزية” للقوات الاميركية المسلحة، كونها الجهة المخولة بجمع وتحليل وصياغة التقارير الميدانية الخاصة بالحرب على تنظيم الدولة الاسلامية. واستحضر دور “المفتش العام” في وزارة الدفاع للتدقيق في تلك الآلية وتحديد المسؤولية، نظريا، عقب تسريب انباء تفيد بأن كبار القادة العسكريين مارسوا ضغوطا على مرؤوسيهم للخروج باستنتاجات معينة تعطي “صورة وردية ومشجعة” للحرب الاميركية خلافا للوقائع الملموسة بين ايديهم.
التسييس اسلوب قديم وفعال
في الجانب التفصيلي الهام، صرح العميد توماس وايدلي، رئيس اركان قيادة العمليات العسكرية، يوم 15 أيار الماضي، ان تنظيم الدولة “يعاني من خسارة وهو في موقف الدفاع.” بينما أتت تصريحات المسؤولين العراقيين في اليوم عينه لتفند ادعاءاته لتزامنها مع احتلال التنظيم للمجمع الحكومي الرئيس في مدينة الرمادي، وسقوط المدينة بأكملها في قبضته بعدها بيومين.
واوضحت النشرة الالكترونية “ديلي بيست” الاعتبارات والدوافع التي ادت لاعادة صياغة الوقائع بالقول ان “التقارير التي اعتبرت متشائمة فيما يخص فعالية الحملة الاميركية، او التي شككت بالقوات العراقية المدربة اميركيا وقدرتها على الحاق الهزيمة بداعش، وجدت طريقها عبر التسلسل الهرمي للقيادة بل لم يتم اطلاع كبار المسؤولين عليها.”
واردفت نقلا عن اطقم المحللين القول “القاعدة العامة المشتركة ان الاستنتاجات والخلاصات المطلوبة كان ينبغي ان تسير ضمن سقف محدد سلفا .. وعليه مارسوا رقابة ذاتية على المضمون” نظرا للضغوط المفروضة على عدم الخروج عن المألوف.
مدير وكالة الاستخبارات العسكرية السابق، مايكل فلين، وصف ما اعلن “المصطلح الذي يمكنني استخدامه هو تسييس الاجهزة الاستخباراتية .. انه أمر خطير.”
اشار العاملون في تلك الاجهزة ان قادة الاستخبارات في القيادة المركزية شكلوا درعا واقيا ضد الضغوط الخارجية في السابق، بيد ان الحماية المفترضة شهدت تراجعا في السنتين الاخيرتين. “يلمس المرء ايحاءات وضغوط لبقة ومتقنة لكنها فعالة.”
من نافل القول ان ادارة الرئيس اوباما “سارعت” سابقا في نعي وفاة تنظيم القاعدة عقب الغارة الاميركية على مقر اقامة اسامة بن لادن، عام 2011. واوضح العقيد السابق في الاسخبارات العسكرية، ديريك هارفي، للنشرة المذكورة، انه “بصرف النظر عن ان القاعدة دمرت او تم تهميشها، جاءتنا الاوامر بالتوقف والكف عن المضي في سياق ذلك التحليل.”
ومضى هارفي في تعرية سياسة الضغوط الرسمية انه وبالاستناد الى الحقائق والملفات التي استولت عليها القوات الاميركية في تلك الغارة فان “صفوف التنظيم من وجهة نظرنا كانت متنوعة واقوى بما كان يعتقد سابقا، بصرف النظر عن تلقي بؤرته القيادية ضربة موجعة.”
قبيل العدوان الاميركي واحتلاله العراق، 2003، استحدثت البنتاغون هيئة سياسية “مكتب التخطيطات الخاصة،” لتسويق العدوان وايلائه مهمة “توفير سياق مراجعة مستقل للمعلومات الاستخباراتية الخامة، قبل تصفيتها وتنقيحها، وتحدي استنتاجات الاجهزة الاستخباراتية التقليدية.” وما اسفر عنه “المكتب” هو اضفاء بعدا ايديولوجيا محددا على التقارير النهائية واتهم بالتلاعب بالحقائق وارشاد القرار السياسي في اتجاه اوحد وهو شن الحرب بصرف النظر عن “المعلومات الغامضة” وصدقيتها في التيقن من “اسلحة الدمار الشامل.”
الحقائق تدحض التقارير
بلغت قوة تنظيم داعش اوجها في شهر آب/ اغسطس 2014، باحتلاله مناطق شاسعة ومدن رئيسة في العراق وسورية، وتكبد خسارة نحو 9% من تلك الاراضي منذ مطلع العام الجاري، وفق احصائيات وزارة الدفاع الاميركية، كمؤشر على “نجاح” استراتيجية الغارات الجوية الاميركية.
الدوائر الاميركية تلتزم الضبابية والغموض امام تحديد ادق لطبيعة الخسائر المشار اليها، الأمر الذي انعكس على مضمون تقارير “القيادة المركزية؛” والتقديرات التي روجتها وكالة الاستخبارات المركزية لعديد تنظيم داعش بنحو 31،500 عنصر عام 2014، بينما العدد الحقيقي بلغ اضعاف المعلن، حيث يقدر الاخصائيون بالشؤون العسكرية ان صفوف التنظيم تفوق 100،000 عنصر مقاتل ويسيطر على مساحة واسعة من الاراضي يقطنها نحو 4 مليون مواطن. تلك الارقام لا تأخذ بالحسبان الميليشيات المحلية المشكلة في الاراضي المسيطر عليها.
الارقام “الرسمية” خرجت من التداول سريعا ليتبعها تقديرات بأن قوة التنظيم العددية حافظت على مكانتها كما كانت عليه العام الماضي، تمكنه من الاحتفاظ بالمساحات الشاسعة والمراكز السكانية تحت سيطرته، بل شن هجمات متعددة.
مراجعة السياسة المتبعة
تعديل الوقائع الملموسة وتزيينها في الوسائل الاعلامية لم يعد ترفا تستطيع الادارة الاميركية الاستمرار به. واضطرت للتجاوب مع الاتهامات “بفشل سياساتها نحو داعش،” بل فشل طموحاتها بتشكيل وتدريب قوات مسلحة سورية “معتدلة” كبديل موازي للتنظيمات التكفيرية المتعددة هناك.
في هذا السياق، برز المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، ديفيد بيترايوس، مطالبا باستغلال تنظيم القاعدة وما تبقى من تشكيلاته كرأس حربة في مواجهة داعش، مستندا الى تجربته في استحداث “الصحوات” في العراق عام 2007 واخماد المقاومة العراقية ضد الاحتلال الاميركي، الى حين.
بيترايوس لا ينطق من هواه بل لما يمثله من مصالح وقوى داخل المؤسسة العسكرية والاستخباراتية، راميا الى تصويب الجدل داخل اصطفافات الكونغرس باستمرار الدعم وتوفير ما تحتاجه القوات الاميركية من امكانيات ودعم سياسي؛ وطرح المسألة على بساط البحث في مناخ الانتخابات الرئاسية المقبلة.
واوضحت نشرة “ديلي بيست،” سالفة الذكر، نقلا عن مقربين من بيترايوس بأنه “يعمل بصمت لحث المسؤولين الاميركيين بناء جسور تواصل مع عناصر معتدلة من “ارهابيي النصرة” وتوكيلهم مهمة التصدي لتنظيم الدولة الاسلامية.” يساعده في ذلك تنامي حرب التصفية المتبادلة بين المجموعتين في الاراضي السورية بشكل خاص.
من المبكر لاوانه الجزم بنجاح توجه بيترايوس في الداخل الاميركي نظرا لما يمثله تنظيم القاعدة من ارهاب مسؤول عن هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001، في الذاكرة الجمعية الاميركية.
الخلاصة
صراع الارادات بين الاجهزة الاستخبارية وصناع القرار السياسي ليس وليد اللحظة بل يعود الى قدم الزمن، ويستمر في كافة العصور والازمنة، فيما يخص النظام السياسي الاميركي وضوابطه المتعارف عليها.
في الماضي القريب، استفاق العالم على غزو المانيا النازية للاتحاد السوفياتي بناء على رغبة واصرار هتلر بخلاف اجهزته الاستخباراتية وقيادة الاركان العامة التي “اضطرت” لتوضيب سيل المعلومات لتناسب مقاسات رؤية هتلر، الذي ثبت لاحقا حجم خطئه في تقييم قدرة الجيوش السوفياتية وعزمها على الدفاع بشراسة عن اراضي البلاد.
في الوضع الراهن، يستمر الرئيس اوباما واركان ادارته بالاعلان عن فعالية “الحرب الجوية المحدودة” والحاقها الهزيمة بتنظيم داعش، مستندا الى تقارير استخباراتية “تم اعادة صياغتها” لتلائم طموحاته وآماله؛ الأمر الذي وفر له ولحزبه الديموقراطي منصة سياسية استغلها في الانتخابات النصفية عام 2014.
من غير المرجح ان يطرأ اي تعديل جوهري على التوجه الراهن، فيما يخص “الحرب على الارهاب،” ولحين انتهاء موسم الانتخابات الرئاسية، سيما وان مستقبل المرشحة الاقوى عن الحزب الديموقراطي، هيلاري كلينتون، مرتبطة عضويا بسياسات الرئيس اوباما في الشرق الاوسط، وتسعى لتفادي اي انتقادات تمس جوهر السياسة خلال السباق الرئاسي.
في العرف الاميركي، ما تلبث انتقادات الاجهزة الاستخباراتية ان تبرز حتى تتلاشى وتختفي سريعا “لاعتبارات الأمن القومي.” وعليه، من المستبعد السماح لمرشحي الرئاسة من الحزبين التطاول على المؤسسة بكافة تلاوينها، لا سيما القيادة المركزية، التي تأتمر مباشرة للبيت الابيض. وفي ذا السياق، من غير المرجح ايضا ان تلقى مناشدات الاصح اذانا صاغية وستغرب عن الظهور سريعا ايضا.