سلطة العجز انهارت… ليكن الحلّ بالعبور الى الانتخابات د. عصام نعمان
عبّر اللبنانيون على مدى أسابيع بحناجرهم، كما بأقدامهم، عن إرادة وطنية جامعة. اجتاحوا بحشودهم الشوارع والساحات. جسّدوا توافقاً وطنياً نادراً ضدّ شبكةٍ حاكمة متهالكة. أطلقوا حكماً قاطعاً بإزاحتها.
سلطة العجز كانت انهارت بافتضاح عجزها عن إزالة تلال النفايات من شوارع المدن والقرى على امتداد البلاد. بدا كأنها تحوّلت بدورها جزءاً باهتاً من تلك النفايات. مع ذلك تحصّنت في سراياها ومقارّها وسوّرتها بأسلاك شائكة ثم بجدار عالٍ من الإسمنت، سرعان ما أطلقت عليه الجماهير، بحق، اسم جدار العار.
بقدْر ما بدت الشبكة الحاكمة عاطلة من العمل وبلا مسوّغ وجود، بدت الجماهير الهادرة، بادئ الأمر، متخبّطة في بحر من المشاعر والشعارات والمطالب. التخبّط دام أياماً إلى أن انضمت إلى الحشود مجاميع من كوادر أحزابٍ وتنظيمات بأسماء ولافتات غير حزبية وبشعارات شعبية لافتة: «بدنا نحاسب»، «حلّوا عنّا»، «شباب ضدّ النظام» الخ.
سبقت وواكبت تحركات الجماهير مقالات ونداءات أطلقها قادة رأي ومثقفون مناضلون مجرّبون صوّبت حراك المتظاهرين ووجّهت جهودهم وجهةَ إصلاحاتٍ سياسية مستحقة. ذلك أدّى إلى فرزٍ ملحوظ في الشارع: هيئات «المجتمع المدني»، وفي مقدّمها الائتلاف الأبرز «طلعت ريحتكم» ريحة أهل السلطة بطبيعة الحال شدّدت على الطابع الاجتماعي لحراكها وحذّرت من تسييسه بمطالبةِ من يرغب في دعمها من المسيّسين بأن ينضمّوا إلى حشودها على شروطها وعدم إطلاق شعارات سياسية. المجموعات المسيّسة ذات البرامج المتكاملة سايرت هيئات «المجتمع المدني» بالتركيز على شعارات إسقاط الحاكمين الفاسدين ومحاسبة المرتكبين منهم. غير أنها أخذت، لاحقاً، منحى الاحتشاد في أمكنة بعيدة نسبياً عن أمكنة احتشاد «منافسيها».
لعلّ المخرج الآمن من هذا الإشكال يكون بالتفاهم الذاتي أو المشترك على برمجة الحراك الشعبي في مرحلتين:
الأولى تتركّز على شعارات فضح الشبكة الحاكمة وهدم «منطقها» السياسي و»ثقافتها» التقليدية وعجزها المدوّي في حلّ مشاكل المجتمع والدولة، وصولاً إلى العمل على إزاحتها، بالحسنى أو بالعصيان، عن مواقعها…
الثانية تتركّز على الأهداف الإصلاحية المرتجاة، ولا سيما الأساسية منها.
إنّ الوسيلة المُراد اعتمادها في هذا السياق ترتقي إلى مستوى الغاية. فتحقيق الإصلاحات الأساسية المرتجاة لن يكون بالعنف: لا بانقلاب عسكري ولا بحرب أهلية بل من خلال انتخابات ديمقراطية حرة. ولعلّ من المفيد التذكير بأنّ نضال الحركة الوطنية اللبنانية كان أثمر، جزئياً، تضمين وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـِ»اتفاق الطائف» للعام 1989 بعضاً من الإصلاحات السياسية التي طالما طالبت وناضلت من أجلها، وأنّ حكومة الرئيس سليم الحص تمكّنت بدورها العام 1990 من إدخالها في صلب الدستور.
أهمّ هذه الإصلاحات تنزَّل في المادة 22 من الدستور القائلة: «مع انتخاب أول مجلس نيابي على أساس وطني لا طائفي، يُستحدث مجلس للشيوخ لتمثيل العائلات الروحية»، أي الطوائف، كما تنزَّل في المادة 95 من الدستور التي تنصّ على إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية. أليس حرّياً باللبنانيين الذين قاسوا طويلاً من الطائفية والمحاصصة أن يستعيضوا في تظاهراتهم عن الشعار السطحي المبهم «الشعب يريد إسقاط النظام» بشعار إصلاحي مفتاحي «الشعب يريد تطبيق الدستور»، ولا سيما المادتين 22 و 95 منه؟
كيف السبيل إلى تحقيق الإصلاحات الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المرتجاة؟
بتجديد القيادات السياسية والاجتماعية من خلال انتخابات ديمقراطية حرة تُتاح فيها الفرصة لكلّ اللبنانيين، مقيمينَ ومغتربين، المشاركة فيها ناخبينَ ومنتخبين. وقد بات ثابتاً من استقراء تجارب أمم عدّة، كما بات مؤكداً باستطلاعات الرأي، أن أكثرية اللبنانيين تعتبر نظام التمثيل النسبي في دائرة واحدة تشمل البلاد برمّتها هو نظام الانتخابات الأفضل والأفعل، ولا سيما لجهة تعميم الديمقراطية وتعميقها، وتجديد القيادات السياسية، وبالتالي تحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المرتجاة.
إنّ إجراء الانتخابات وفق نظام التمثيل النسبي هو المطلب الجامع المشترك للبنانيين في هذه المرحلة، ويقتضي تالياً أن يكون المطلب الرئيس للحراك الشعبي الواسع الذي يلف لبنان في هذه الآونة. نعم، يجب عدم الانخداع بأي تسوية ظرفية، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، تحاول الشبكة الحاكمة إمرارها لتنفيس الحراك الشعبي والانتفاضة الشعبية ضدّ سلطة الاحتكار والمحاصصة والفساد، والإصرار على أن تكون الانتخابات النهج الديمقراطي المعتمد لتحقيق المطالب الإصلاحية وتقرير المصير.
لتحقيق هذا المطلب الوطني الاستراتيجي، يقتضي تشديد الضغط على الشبكة الحاكمة وسلطتها الهرمة بكل الوسائل المشروعة، بما فيها العصيان المدني، من أجل حملها على التسليم بإجراء انتخابات ديمقراطية وفق نظام التمثيل النسبي. وإذا لم يبادر مجلس النواب، بالسرعة الممكنة، إلى تشريع قانون الانتخابات الديمقراطي المنشود، فلا مناصّ عندئذٍ من قيام القوى الوطنية الحية صانعة الحراك والانتفاضة الشعبيين بتكوين وإعلان مؤتمر وطني للحوار والقرار يمثل مختلف شرائح المجتمع اللبناني.
يصدر عن المؤتمر، في هذه الظروف الاستثنائية التي تجيز اتخاذ قرارات استثنائية، نظامٌ انتخابي على أساس التمثيل النسبي في دائرة وطنية واحدة، وتنبثق منه حكومة موقتة لإجراء انتخابات ديمقراطية حرة وفق أحكامه فيكون ثمرتها أول برلمان شرعي في تاريخ الجمهورية. ومن الطبيعي أن يبادر البرلمان الجديد إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وأن يصار تالياً إلى تأليف حكومة وطنية جامعة تتولى تحقيق الإصلاحات الأساسية المرتجاة وفي مقدمها تلك المنصوص عليها في المادتين 22 و 95 من الدستور.
ثمة فرصة نادرة أمام اللبنانيين الأحياء للخروج من الأزمة المزمنة بتحقيق تسوية تاريخية قوامها الحرية والديمقراطية والمواطنة وحكم القانون والعدالة والتنمية والإبداع، فهل يبادرون؟
(البناء)