خلفية وآفاق هزة أسواق الأسهم نظام المضاربات المالية يترنح تحت وطأة ازمته البنيوية د.منذر سليمان
سوق الاسهم احد عناصر الاقتصاد
تضاربت رؤى النخب الاقتصادية الاميركية للهبوط الحاد في سوق الاسهم الصينية، ليس في بعد تحديد دقيق لعناصره ومحركاته فحسب، بل لما قد يتركه من تداعيات على الاقتصاد الاميركي برمته، ومن ثم على الاقتصاديات الاوروبية التي ما تلبث تجميد ازمة معينة لتدخل في ازمة اخرى اقصى واشد.
النخب التقليدية اعتبرت “انهيار” سوق الاسهم مؤشر على انهيار مماثل للعجلة الاقتصادية برمتها وقد تؤدي الى حالة افلاس بطيئة ربما. وشبهها البعض بانها “انهيار سور الصين العظيم” اقتصاديا. وسرعان ما توجهت المزايدات السياسية بين المرشحين لمنصب الرئاسة الاميركية لتحميل الادارة الاميركية وزر الازمة لمديونيتها غير المسبوقة لصالح الحكومة الصينية، من ناحية، ومن ناحية ثانية للتنديد بنموذج اقتصاد السوق الذي “لا تدرك القيادة السياسية في الصين آلية عملها بعد كل ما مضى عليها من سنين طويلة.”
تشير النخب التقليدية، محقة، الى انتهاج الصين نظام يستند في الجزء الاكبر منه الى الاستثمار في البنى التحتية وتصدير السلع ومراكمة الفائض المالي، مقابل جزء ضئيل من العائدات تذهب لقطاع الاستهلاك المحلي – بخلاف الاقتصاديات الغربية والاميركية بشكل خاص. وسددت اسهم انتقاداتها لتدخل الدولة في الاجراءات الاقتصادية، التي يعتبرها النظام الرأسمالي قضية يضطلع بها السوق والهيئات الدولية، ممثلة بصندوق النقد والبنك الدوليين.
وتمضي تلك النخب في تحذير الصين من استمرار انفاقها على بناها التحتية اذ “تمثل دواءا نمطيا يعبر عن ضعف الاداء الاقتصادي .. وتوفيرها قروض ميسرة ومخفضة للقطاع العام.” وتستنتج بناء على ما تقدم “مراكمة الدولة لمديونية كبيرة باتت تثير قلقا حقيقيا من استقرار الاوضاع المصرفية” في الصين.
على الطرف المقابل في فصيلة النخب الاقتصادية الاميركية اوضح استاذ مادة الاقتصاد في جامعة ميزوري، مايكل هدسون، انه من الخطأ اعتبار سوق الاسهم رديفا للاقتصاد برمته، محذرا من بناء استنتاجات ونظريات مستمدة من اداء قطاع لا يشكل سوى “1% من مجمل النشاط الاقتصادي العام.” ويشدد هدسون على “ضرورة تدخل الدولة المركزية،” بخلاف اقرانه الآخرين، في توجيه الاقتصاد الوطني خاصة في تعديل الحد الادنى للاجور ومراقبة امتثال القطاع الخاص للتدابير والقيود المالية.
ازمة ثابتة ام عابرة
عند كل نقطة انعطاف، حادة او عابرة، في النظام المصرفي العالمي يتجدد الجدل حول طبيعة وماهية الأزمة وعلاقتها بتاريخ الرأسمالية، وارتباطها او تباينها مع ازمات فرعية اقل وطأة كتلك التي عصفت بمعظم الدول الاوروبية الرأسمالية واميركا وغيرها منذ العام 1970، وادخلتها في ازمة “ركود تضخمي” في الفترة الزمنية بين 1973-1982. وسجل البنك الدولي ما ينوف عن 125 ازمة مصرفية وازيد من 200 ازمة تتعلق بسعر صرف الدولار، وازمات اخرى تتعلق بالديون والصناديق السيادية “تنشأ في استنفاذ نموذج النمو،” وتستنهض البحث عن تعديل القواعد السائدة وبروز تكتلات بديلة او تنافسية مع المركز الرأسمالي العالمي.
بعبارة اخرى فكل ازمة “تفرز” شكل جديد من الرأسمالية ناجم عن اختلال العلاقة بين الانتاج والتوزيع – توزيع الثروة، ومنها ما نشهده راهنا من “راسمالية ليبرالية جديدة،” محور حركتها تصدرته الولايات المتحدة واسواقها المصرفية تحت عباءة وول ستريت، منذ بدايات القرن العشرين وللآن.
يشار الى ان غالبية المستثمرين الاميركيين، عقب طفرة النمو بعد الحرب العالمية الثانية، وضع ثقته في الاستثمارات المصرفية والمضاربات المالية، وتنبهت كبريات مراكز المال للسيولة المتجددة وسارت لاستثمار خبراتها الاقتصادية في بناء مجدها على اكتاف الطبقة الوسطى الناشئة التي اضحت “اداة تمويل لاصحاب الاسهم.”
وسرعان ما تبخر حلم المستثمرين تباعا ومنذ بدء الألفية الثانية وتعمقت الازمة التعاونية بين المصارف الكبرى والمصارف التجارية وقطاع التقنية المتطورة من ناحية، وصغار المستثمرين. وادى الى “انهيار تام في النظام” السابق منذ منتصف الشهر الجاري عندما سعى المستثمرون التصرف بمدخراتهم في عمليات البيع والشراء في سوق الاسهم ليجدوا انفسهم امام عملية اعاقة معقدة شاركت فيها المصارف الكبرى ورديفاتها وكبار مالكي الاسهم وتلاعبت بقيمة السيولة المفترضة. ولم يتوفر امام المستثمر خيار الا لبيع المدخرات والاحجام عن الاستثمار مجددا.
اوجز الخبراء الاقتصاديون الازمة الراهنة بأنها ناجمة عن “تطور هائل في القطاع المصرفي بلغ درجة عالية من التركيز واقتصر الاداء على عدد قليل من المصارف الكبيرة.” ونتيجة لذلك “تجد السلطات الرسمية نفسها مضطرة للتدخل المباشر” لمصلحة تلك المؤسسات المالية الضخمة “وتحول دون انهيارها،” كما حدث مع شركة جنرال موتورز وكبريات شركات الـتأمين في بداية ولاية الرئيس اوباما.
اما سبل معالجتها فتشهد انقسامات عميقة بين المدرسة الرأسمالية الكلاسيكية عينها على الرغم من شبه اجماع يقر بعدم فعالية “السلاح النقدي وحده .. حتى لحل ازمة مالية صرفة،” وعجز عن وقف الدورات المتتالية للازمة “وتلافي آثارها المدمرة ..”
التحديد الدقيق للازمة يستدعي تناول الجانب السياسي، او الاقتصاد السياسي، للاحاطة بكافة نواحي الازمة، مهمة ابعد من نطاق مرور متواضع. بيد ان المدرسة الرأسمالية تستند الى نماذج وفرضيات واستنتاجات تصطدم بالواقع وقصور في شرح الازمة التي “لا يحلها الا توازن السوق.”
تميز مايكل هدسون بتسليط الضوء على وول ستريت منبت وجذر الازمة. واوضح ان الاقتصاد الاميركي يتحكم في ادارته “القطاع المصرفي لمصلحة اركانه،” ليس الا، بل يمارس نفوذ هرمي هائل على الحياة السياسية العامة “ويحتفظ بحق الفيتو لتعيين كبار مدراء المناصب الوزارية،” لا سيما في ادارة وزارة المالية التي تعود لاحد وكلائه من كبريات شركات المال المصرفي، دورة بعد اخرى.
المصارف المركزية أس الازمات
السؤال الدائم ماذا حصل في الصين. يقرّ احد اشهر الاقتصاديين الاميركيين، بول كروغمان، بتحول الصين الى مرتبة “قوة اقتصادية عظمى .. بيد انها لا تضاهي مرتبة الولايات المتحدة او الاتحاد الاوروبي.”
في الازمات الاميركية المتتالية احتل البنك المركزي، المصرف الفيدرالي، الدور المحوري في اطالة امد الازمة نظرا لتردده في اتخاذ خطوات “جريئة وقاسية” في الوقت المناسب والتي قد تؤدي الى حالة ركود، على الرغم من اهميتها في تنشيط التبادلات التجارية. اقتصر دور البنك المركزي وامتداداته في المصارف التجارية الكبرى على استغلال النفوذ السياسي الضخم لحصد مزيد من الارباح، وتطبيق انماط التبادل التجاري الالكتروني، تلقائية الحركة، المعروفة بالتبادلات وفق الجداول الخوارزمية. في المحصلة ادت تلك العمليات الى زعزعة استقرار الاسس الاقتصادية بدلا من تدفق السيولة المالية.
اعطت البنوك والمصارف المركزية لنفسها الحق في التدخل بالاسواق المصرفية، كما شهد العالم تدخلاتها المتواصلة “لضبط” الاتجار بالذهب بغية دعم عملاتها المحلية.انفردت الولايات المتحدة باتخاذ قرار الاقلاع عن اعتماد الذهب كمعيار لدعم العملة المحلية، مطلع عقد السبعينيات، وفرضت تسعير السلع الاساسية، لا سيما قطاع الطاقة والنفط، بالدولار فاقد القيمة المعتمدة عالميا. تنامي الطلب العالمي على اقتناء العملة الورقية الاميركية ادى لتدخل المصارف المركزية على الفور لتعويم الدولار بعد فقدانه المعايير المعتمدة سابقا.
استحدث المصرف الاميركي المركزي مجموعة الحماية من الانهيار الاقتصادي، مطلع الثمانينيات، مهمتها “تعزيز مصداقية وفعالية والدور التنافسي للاسواق المصرفية (الاميركية) والحفاظ على ثقة المستثمرين.” بعبارة اخرى، تتوثب المجموعة للتدخل المباشر في حال تدهور القطاع المصرفي وضخ السيولة المالية اللازمة في الاسواق والمحافظة على بقاء الاسعار مرتفعة.
ومنذئذ اضحت المجموعة لاعبا دائما بارزا في الاسواق المصرفية، ممثلة لاضخم المصارف، وضخت في الاسابيع القليلة الماضية سيولة نقدية عالية بلغت بضع مليارات في النظام المصرفي؛ وصادرت تدريجيا دور الافراد من المستثمرين.
ملكية الصناعات الاميركية الضخمة اضحت بيد المصارف الكبرى والبنك المركزي، التي ترى اولوية نشاطاتها في الحفاظ على استقرار الاسواق بدلا من الاستثمار في قطاعات انتاجية تؤدي للنمو الاقتصادي. للدلالة على مدى سطوة ونفوذ المصارف الكبرى، نورد مثال المصرف المركزي السويسري الذي دشن استثماراته مطلع العام الجاري بشراء 3،3 مليون سهم تعود لشركة آبل الالكترونية، اتبعها بنحو نصف مليون سهم اخرى في الربع الثاني من العام. وتم الكشف لاحقا عن استثمارات ضخمة للمصرف السويسري في الاقتصاد الاميركي، مستغلا ميزة عدم قانونية المصرف الفيدرالي امتلاك اسهم مباشرة، تراوحت قيمتها بين 250 الى 637 مليار دولار شملت كبريات الشركات الاميركية العالمية: اكسون موبيل، مايكروسوفت، جنرال اليكتريك، بيبسي، كوكا كولا، آي بي ام، واخرين. وسرت “شائعات” تشير الى ان المصرف السويسري ما هو الا واجهة “استثمار” للبنك المركزي الاميركي نظرا لضخامة حجمها غير المسبوقة لمؤسسة غير اميركية.
يؤكد الاقتصادي مايكل هدسون ان المصرف الفيدرالي الاميركي ضالع ولاعب مباشر في الازمة “وضخّم قيمة الاسهم ليحصد سيولة مالية هائلة بلغت نحو 4،5 تريليون دولار ذهبت لصالح وول ستريت لشراء السندات.” واضاف ان ما يعتبره البعض “نموا اقتصاديا اقتصر على القطاع المصرفي حصرا .. لدى شريحة 1%.” اما الاغلبية الساحقة للمكونات الاقتصادية “99% فلم تشهد نموا.”
الاقتصادي الاميركي الشهير والفائز بجائز نوبل، ميلتون فريدمان، اعتبر ان جذر ازمة “الكساد العظيم،” عام 1929، جاء ثمرة لفشل المصرف المركزي تحمل مسؤولية توسيع السياسة المصرفية بفعالية والوقوف بوجه القيود المفروضة على عروض الاموال نظرا لفشل البنوك الاخرى. يشار الى ان الدولة المركزية تدخلت لاحقا بانشاء صندوق تأمين على المدخرات بضمانات فيدرالية تحول دون تكرار تجربة الايام الخوالي التي تبخرت فيها مدخرات ملايين المواطنين الاميركيين وكذلك احجام المصارف عن توفير القروض.
في الحالة الصينية، يوضح هدسون، ان معظم الاستثمارات في قطاع الاسهم كانت من نصيب بنك (اتش اس بي سي) المعولم، والذي يوفر القروض للصين. كذلك استشرت ظاهرة “الثراء السريع” بين صغار التجار الذين اقترضوا بكثافة من وسطاء للبنك المذكور، وافاقوا على تراكم مديونية كبيرة لاولئك– الحلقة المباشرة للمصرف الضخم.واردف ان ميزة الصين كانت في رؤيتها المبكرة لاهمية تصدير السلع ومراكمة احتياطيات هائلة بالعملات الدولية مما حفزها للنهوض المستقل عن سيطرة الغرب؛ وتمضي قدما في التحول من اقتصاد قوامه التصدير الى اقتصاد عماده مواصلة الانتاج لتغطية احتياجات السوق المحلية.
الاستراتيجية الجديدة للمؤسسات الاقتصادية
تدرجت معايير القيمة في الاقتصاد الاميركي من النموذج التقليدي للاقتراض والاستثمار طمعا في تحقيق ومراكمة الارباح، الى مفاضلة رؤساء ومدراء المؤسسات الاقتصادية والشركات الكبرى وقياس مكافآتها بناء على قيمة اسهم المؤسسة/الشركة اربع مرات في السنة، بعيدا عن نموذج النمو الاقتصادي الحقيقي.
دفع الأمر عدد من المدراء الكبار التوجه للاقتراض بفوائد مخفضة وشراء قسط كبير من اسهم تلك الشركات، اي رفع قيمة السهم بطريقة مصطنعة تتداولها السجلات الرسمية كدليل يجري بموجبه احتساب حجم المكافأة. اطلق خبراء اقتصاديون تحذيرات مستمرة ضد هذا الاسلوب الذي “يعد من الخداع الاشهر والمشكوك فيه لدى وول ستريت.”
يشار الى ان “مؤشر اس آند بي 500” الاقتصادي اورد ناتج الربع الاول من هذا العام وتوزيع الفائض على المساهمين بوتيرة اعلى من قيمة المردود الحقيقي. ومثالا على ذلك ايضا كان في الربع الاخير من العام 2008 باشارة “مؤشر اس آند بي 500” الى خسارة قليلة بعض الشيء، والمضي بانفاق نحو 110 مليار دولار على ارباح الاسهم وعمليات اعادة شرائها المذكورة.
مثال مشابه جاء في اعلان شركة “كاتربيلار” لمعدات الحفريات الثقيلة شرائها نحو 4،2 مليار دولار من الاسهم عام 2014 على الرغم من ان عوائدها كانت اقل من ذلك المبلغ.
لا يجادل امريء في ضلوع المصارف الكبرى بتقويض الاسواق المصرفية نظرا لتوفر سيولة نقدية هائلة لديها، بل ايضا في الاقلاع عن النموذج التقليدي للانتاج وتحقيق مستوى من الارباح الى نموذج يقدس تسعير الاسهم وفق ما تقتضيه مصالح الشريحة الصغرى، والكفيل بتدمير نظم اقتصادية بأكملها.
في مسعى التخفيف من وطأة القيم الموغلة في التوحش الاقتصادي، اوضحت يومية “وول ستريت جورنال” ان الازمة تدور بين “النخب الثرية في مواجهة الجماهير الفقيرة” والمعدمة، وشهدت الهبوط الحاد في قيمة الاسهم المتداولة لأزيد من 1000 نقطة في ساعات الصباح الباكر مطلع الاسبوع الجاري، في ظرف زمني قصير خلال تناولهم وجبة الصباح.
ونقلت على لسان شابة لم تتعدى الثلاثين من العمر سعيها المحموم لبيع بعض اسهم تحتفظ بها لاحدى كبريات شركات الاتجار بالاسهم، وعدم قدرتها استكمال عملية البيع الكترونيا نظرا لتدفق اعداد اخرى تقوم بالمثل، وبلغت خسارتها نحو 6،000 دولار خلال دقائق معدودة.
تلك الشابة والالاف امثالها من المستثمرين لن يكون بوسعهم العودة لسوق الاسهم في اي وقت قريب.
المصارف الكبرى
السيولة النقدية التي ضخها البنك المركزي في الاسواق ذهبت لمصالح المصارف الكبرى وشركات الاستثمار العالمية، وعززت الفوارق القائمة بين شريحة الاثرياء وغالبية القطاعات الشعبية الاخرى. لعل الأهم هي النفوذ المكتسب بدراية ووعي لتلك المصارف واستغلاله في الحياة السياسية الاميركية وابراز ممثلين مخلصين لها لتبوأ المناصب السياسية الحساسة.
يشار في هذا الصدد الى التدخل الحكومي الصارخ في ازمة النقد عام 2008 تحت عنوان عدم السماح بفشل المؤسسات الكبرى، والتي تم تمويلها بوصفة اشتراكية: اموال القطاع العام تنقذ جشع القطاع الخاص.
ولخص الاقتصادي مايكل هدسون الوضع المقلق بالقول “حقيقة الأمر اننا لا نزال نعيش تداعيات الفقاعة المالية لعام 2008” التي ذهبت فوائدها لمصلحة شريحة 1% حصرا. واضاف ان “اسعار الاسهم تضاعفت قيمتها منذ عام 2008، بينما كافة القطاعات الاقتصادية الاخرى لم تشهد نموا بالمرة.”
نظرة سريعة على من تبوأ المراكز الاولى في الاقتصاد الاميركي والحياة السياسية الاميركية تدل بوضوح على تبادل المنفعة بين القطاع المصرفي والسياسة: مرشحيْن عن الحزب الجمهوري، جيب بوش وجون كاسيك، برزا او تم فرزهما من قبل شركة “ليمان برذرز” للاستثمارات المصرفية، وراكم بوش ثروة بلغت نحو 14 مليون دولار عقب مغادرته منصب حاكم ولاية فلوريدا.
تداعيات الازمة الراهنة عالميا
الترابط الوثيق للاقتصاديات العالمية المختلفة يترك تأثيراته على كافة عناصره واطرافه، سلبا او ايجابا، وان بدرجات متفاوتة. هبوط سوق الاسهم في الصين ادى ايضا الى انخفاض وتدهور اسعار النفط لمستويات ربما الادنى خلال ستة اعوام. السوق الاوروبية تترنح تحت وطأة سياسات التقشف التي تفرضها كبريات المصارف في برلين وبروكسل، اسماها الاقتصادي هدسون “بمنطقة التقشف.”
اشتداد التنافس بين القوى الاقتصادية الكبرى، اميركا اوروبا والصين، يترجم توترات جيوسياسية في منطقة بحر الصين الجنوبي و”تنامي القدرة العسكرية للصين.” تترجم اوجه التنافس في مناطق اخرى مثل الصدام بين الكوريتين على خلفية ادارة اطراف الصراع بالوكالة.
منطقة الخليج العربي تشهد توترات وتنافس القوى العالمية لما لثروتها الباطنية من النفط والغاز من اهمية عالية للاقتصاد العالمي. تراجع عائدات النفط سيترك تداعيات مباشرة على نية دول الخليج المحافظة على السقف العالي للانفاقات العسكرية.
على المستوى الشعبي العام، من المرجح جدا ان تتأثر المخصصات والانفاق الحكومي في دول الخليج على البرامج الاجتماعية، رواتب ومكافآت ومزايا اقتصادية. تخفيض المعدلات الحالية سيعزز الاضطرابات السياسية والاجتماعية معا في دول اعتبرت نفسها محصنة من المطالب الشعبية.
اميركيا، يستطيع الاقتصاد الاميركي امتصاص بعض الازمات، حتى وان طال امدها المنظور، وستوظف عائدات الدول النفطية وصناديقها السيادية المودعة في المصارف الاميركية للحد من تدهور الاحوال الاقتصادية – الوصفة التي اعتادت عليها لنحو نصف قرن من الزمن.
انخفاض اسعار الاسواق المالية اضحت لازمة للاقتصاد الرأسمالي والاميركي تحديدا، ويشهد عادة انطلاق مضاربات مالية على حجم وقيمة التدهور. اميركا تُعرّف “السقوط” ببلوغ مؤشر “اس آند بي 500” الى 20 نقطة مئوية على الاقل، تدوم لفترة 10 أشهر. وعليه، شهد الاقتصاد الاميركي تراجعات بلغت 25 مرة منذ الكساد الكبير عام 1929، بمعدل مرة كل 3-4 سنوات.
في الحالة الراهنة يعتقد بعض الخبراء انها ابعد من مجرد ازمة عابرة ستمر، بل وقودا ينتظر عود الثقاب، مما سيؤدي الى تسابق المستثمرين لبيع عوائدهم واصولهم وتعميق الازمة لمستويات ابعد. ينبغي لفت الانتباه الى المستوى المرتفع لحجم الديون المستحقة والتي قد تنزل بالازمة الى مستويات اشد تدنيا وقسوة، وما سيرافقها من اضطرابات اجتماعية.
كما تجدر الاشارة الى بعض الارهاصات الاقتصادية والاجتماعية في السنوات القليلة الماضية، في المجتمع الاميركي، وتبلور خطابها السياسي منذ حركة “احتلوا وول ستريت،” الى النموذج الاجتماعي الاقسى “حياة السود لها قيمة؛” وما بينها من توترات بين السلطة المركزية والتنظيمات المتطرفة والعنصرية التي كان ابرزها الصدام في مزرعة بندي في منطقة الغرب الاميركي، واحتجاجات حزب الشاي اليميني.
الاصطفافات السياسية والاجتماعية الحادة تجد ترجمة واقعية لها في حضور الجمهور الانتخابي المكثف لطرفي النقيض وخيار البديل: دونالد ترمب عن الحزب الجمهوري، وبيرني ساندرز عن الحزب الديموقراطي. بالمقابل، المرشحيْن الاقرب لقلب السلطة، جيب بوش وهيلاري كلينتون، يعانيان من تجاوب شعبي مع برامجهما الانتخابية والحزبية.
تجدد الازمات الاقتصادية في فترات زمنية متقاربة عزز شكوك العامة بسيطرة النخبة من العائلات الثرية على المشهد والقرار السياسي، بل لا يكترث لهموم ومطالب اغلب القطاعات المتضررة.
الفترة المقبلة حبلى بارهاصات وتحركات قد تشتد حدة وتبلورا، وتهدد الحزبين المتناوبين على السلطة ان لم يتم اجتراح حلول مرضية.