مقالات مختارة

منظمة التحرير الفلسطينية أمام مقامرة- معين الطاهر

 

لا يكترث المقامر لما يخسره، طالما هو مستمر في اللعب، معتقداً أن ضربة الحظ التي ينتظرها ستأتي في جولة مقبلة، من دون أن يكتشف حجم خسارته المتتالية، ظنا منه أن في وسعه تعويضها، إلى أن ينتهي به الحال خاسراً نفسه في آخر لعبة نرد، أو رمية زهر. ويبدو أن هذا هو حال القيادة الفلسطينية الحالية، التي ما انفكت تخسر الجولة تلو الأخرى، من دون أن تغادر حلبة المفاوضات المجمدة، حيث كشفت كل أوراقها بلا مقابل، وتجردت من كل شيء، على أمل واهٍ بأن تتمكن من تعويض ما فاتها، أو الحد من خسارتها، فخسرت نفسها وشعبها وروح المقاومة فيها، ولم تربح شيئاً. وها هي تقامر بورقتها الأخيرة، منظمة التحرير الفلسطينية، وهيئاتها القيادية من اللجنة التنفيذية إلى المجلسين، الوطني والمركزي الذي تضرب قراراته بعرض الحائط، بعد أن جردتها من كل عوامل القوة والنجاح، ورفضت محاولات إحيائها أو إنعاشها أو السماح لها بمواصلة دورها الحقيقي في تمثيل فلسطين، كل فلسطين .

في النظام الداخلي لمنظمة التحرير، يعقد المجلس الوطني الفلسطيني اجتماعا سنويّاً، ويعاد انتخاب اللجنة التنفيذية مرة كل ثلاث سنوات. ومنذ تأسيس المنظمة سنة 1964 وحتى اتفاق أوسلو، عقدت 20 جلسة للمجلس في 27 عاماً. ومنذ “أوسلو” عقدت جلسة واحدة سنة 1996، شابتها شوائب كثيرة، وعقدت جلسة استثنائية في 2009، حضرها أعضاء اللجنة التنفيذية ورئاسة المجلس وبعض الأعضاء، خصصت لاستبدال أعضاء اللجنة التنفيذية الذين انتقلوا إلى رحمة الله.

لم تفلح كل المحاولات وقرارات المجلس المركزي واتفاقات الفصائل والمصالحة والمتعلقة بإعادة إحياء منظمة التحرير، وتشكيل إطار قيادي موحد، تدخل في عضويته حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ويتولى إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني على أسس ديمقراطية، تتضمن إجراء انتخابات في كل مناطق الوطن والشتات، وحيث يمكن ذلك. هذا الإطار القيادي الموحد، والذي تضمنته كل الوثائق والقرارات والاتفاقات الفلسطينية، لم تتم دعوته إلى الاجتماع ولو مرة، كما لم يتم تفعيل القرار الذي يعتبر أعضاء المجلس التشريعي أعضاء في المجلس الوطني، بعد أحداث الانقسام، تحسبا من وجود كتلة قوية لحركة “حماس” داخله. وهكذا، بتنا أمام مجلس وطني مضى على انتخابه وتعيينه قرابة ربع قرن، تغيّرت، في أثناء هذه المدة، أحوال الفصائل، فمنها ما ظهر واشتد عوده، ومنها ما اضمحل واندثر أو يكاد، ولا يتعدّى تأثيره على المجتمع الفلسطيني تأثير حفنة أشخاص، يثرثرون على مأدبة عشاء. أما المستقلون فقد انتقل جزء كبير منهم إلى رحمته تعالى، أو بلغ من السن عتيّاً. وحال المنظمات الشعبية لا يسر، إذ أصابها ما أصاب مؤسسات المجتمع الفلسطيني وارتهانها للسلطة، إلا من رحم ربي، ناهيك عن حال ممثلي هذه النقابات. هل ما زال طالبا ذاك الذي مثل اتحاد الطلاب قبل ربع قرن؟ وهو ما يماثل وضع النقابات الأخرى التي تغيرت هيئاتها القيادية مع مرور الأيام. أما اللجنة التنفيذية فيتراوح أعمار أعضائها بين 65 و 90 عاماً، بعضهم ما زال في مقعده فيها منذ أكثر من 43 عاماً.

لم تفلح كل المحاولات وقرارات المجلس المركزي واتفاقات الفصائل والمصالحة والمتعلقة بإعادة إحياء منظمة التحرير، وتشكيل إطار قيادي موحد، تدخل في عضويته حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي“”

دور غائب وجدل الاستقالات

لا يكفي توصيف ما آلت إليه هذه المؤسسة العريقة، سواء على مستوى عضويتها، وتآكل تمثيلها التدريجي، أم على مستوى محاولة تعديل ميثاقها الوطني الجامع سنة 1996، ناهيك عن التغييب الكامل لدورها التشريعي والرقابي، سواء على اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أو على القيادة الفلسطينية وأدائها السياسي، طوال هذه الفترة المهمة، وخصوصا أن منظمة التحرير، وحتى ضمن اتفاق أوسلو سيئ الصيت، هي الطرف الذي يمثل فلسطين، وليست السلطة الوطنية. ذلك أن تغييب هذه المؤسسة يعني تغييب آخر وسيلة للمراقبة والمحاسبة ورسم السياسات والبرامج الفلسطينية الموحدة، كما يعني عزل مكونات الشعب الفلسطيني، الواحدة عن الأخرى، عبر تغييب ممثله الشرعي والوحيد، والذي يصهر هذه المكونات، من الشتات إلى الضفة والقطاع وفلسطين المحتلة منذ سنة 1948 في بوتقة واحدة، وقضية كبرى لا تنقسم، ويحول دون اختزالها في سلطة حكم ذاتي محدود ومرتهن للإدارة العسكرية للمحتل الصهيوني.

في ظل هذا الواقع المؤلم، يفترض في القيادة الفلسطينية، وهي تسعى إلى معالجته، أن تبادر إلى دعوة الإطار القيادي الموحد المتفق عليه لمنظمة التحرير، أو أن تشكل هيئةً تبدأ بالتحضير لانتخابات مجلس وطني فلسطيني جديد، تكون أولى مهامه إعادة الاعتبار إلى منظمة التحرير، لتكون بحق بيتا للفلسطينيين، وكيانا معنوياً واحداً لهم، يحول دون أي انقسام أو فرقة، ويوحد مكونات الشعب الفلسطيني، الجغرافية والسياسية، على برنامج جامع، ينطلق من الميثاق الوطني والثوابت الوطنية الفلسطينية، ويشكل دستورا للفلسطينيين، لا يتغير بمتغيرات السياسة اليومية. إلا أن القيادة الفلسطينية الراهنة، وفي مسعاها إلى إعادة تفصيل البيت الفلسطيني على هواها، وضمن سياسة تصفية الحسابات بين من كانوا، حتى وقت قريب، في صف واحد، تجمعهم مظلة أوسلو وسقف المفاوضات. قررت المقامرة بالورقة الأخيرة التي أضعفتها، طوال المرحلة السابقة، وأفقدتها هويتها الحقيقية، وهي ورقة منظمة التحرير، وإعادة تشكيل هيئتها القيادية المتمثلة باللجنة التنفيذية، عبر تنحية خصومها الجدد، ومحاولة ترتيب الوضع لما بعد مرحلة الرئيس، محمود عباس.

في اجتماع للجنة التفيذية في رام الله، 22 أغسطس/آب الجاري، تقدم الرئيس عباس، وتسعة أعضاء آخرين، باستقالاتهم من اللجنة. وبذلك، تفقد اللجنة نصابها القانوني، وقدم أمين سر اللجنة، صائب عريقات، الاستقالات إلى رئيس المجلس الوطني، سليم الزعنون (أبو الأديب)، مرفقاً بطلب عقد دورة استثنائية للمجلس الوطني، استنادا إلى الفقرة ج من المادة 14 في النظام الأساسي، مطالبا بأن يتم في هذه الدورة انتخاب لجنة تنفيذية جديدة.

تم إلقاء الحجر في بحيرة مياه راكدة، إلا أن الدوائر التي أثارها سرعان ما بدأت في الاتساع، حتى شملت شطآن البحيرة كلها، وتداخلت دوائرها، حتى أوشكت، أو تكاد، أن تعصف بالحجر الأخير من بناء المنظمة. لوهلةٍ، يبدو أن رئاسة المجلس بدأت إرسال الدعوات للحضور، وحددت يوم 26-8 موعدا للاجتماع الاستثنائي في مقر المقاطعة في رام الله، كما جاء في مقال للدكتور، أنيس مصطفى القاسم، الذي أفاد باستلام الدعوة، قبل أن تبتلعها عاصفة الاحتجاجات.

الصفعة الأولى والشرح المكتمل الوافي جاء على لسان واضع النظام الأساسي للمجلس، ورئيس لجنة الميثاق والأنظمة في الإجتماع التأسيسي لمنظمة التحرير سنة 1964 ورئيس اللجنة القانونية في المجلس الوطني منذ تأسيسه وحتى استقالته في سنة 1996، احتجاجا على محاولة تعديل الميثاق الوطني، وهو الخبير القانوني البارز، الدكتور أنيس القاسم. يقول إن الفقرة ج من المادة 14 تنص على أنه “في حالة القوة القاهرة التي يتعذر معها دعوة المجلس الوطني إلى اجتماع غير عادي، يتم ملء الشواغر من قبل اللجنة التنفيذية ومكتب المجلس، ومن يستطيع الحضور من أعضاء المجلس، وذلك في مجلس مشترك، يتم لهذا الغرض، ويكون اختيار الأعضاء الجدد بأغلبية الحاضرين” . في حين أن الفقرة أ من المادة نفسها تتحدث عن انتخاب اللجنة التنفيذية في الدورة العادية للمجلس، مكتملة النصاب، وهو ثلثا الأعضاء. أما الفقرة ب، فتتحدث عن دورة طارئة، يدعى إليها المجلس خلال 30 يوماً، وتكون أيضا مكتملة النصاب، لاستكمال الشواغر في اللجنة التنفيذية. ينفي القاسم وجود قوة قاهرة، تمنع انعقاد المجلس الوطني، بعد أن يعرف ماهيتها وظروفها، ويدعو إلى عقد دورة مكتملة النصاب للمجلس الوطني.

وجاءت الصفعة الثانية من رئيس المجلس الوطني الذي استيقظ فيه ضمير القاضي، ليعلن، متفقاَ مع القاسم، أن الدورة الاستثنائية إن عقدت، فليس من صلاحياتها انتخاب لجنة تنفيذية جديدة، وإنما يقتصر عملها على قبول استقالات الأعضاء، وانتخاب بديل عنهم. أما انتخاب لجنة تنفيذية جديدة، فذلك من صلاحيات جلسةٍ للمجلس، يلزمها حضور ما لا يقل عن ثلثي أعضائه، وليس حضور بضع عشرات في جلسة استثنائية، يقررون فيها انتخاب قيادة جديدة للشعب الفلسطيني. الطريف أن صائب عريقات رد على ذلك بأن المجلس حين يجتمع يكون سيد نفسه، لكن رد سليم الزعنون كان أبلغ، أن المجلس سيد نفسه، حين يجتمع بنصاب كامل، أما حين يجتمع مكتب المجلس مع اللجنة التنفيذية وعدد محدود من أعضاء المجلس في جلسة استثنائية تتسع لهم إحدى الغرف، فإن السيد هو القانون. وسرعان ما شاب هذا الموقف الشجاع الغموض، إثر اجتماع الرئيس محمود عباس مع سليم الزعنون، واتفاقهما على الدعوة إلى جلسة عادية تتحول إلى طارئة، إن لم يكتمل النصاب، من دون توضيح ما إذا كان هذا مجرد التفاف على القانون، وهو ما ستتكفل الأيام المقبلة بتبيانه. ويتعدى الأمر، هنا، الجدل القانوني، ليمتد ويهدد بحدوث شرخ فلسطيني جديد.

الاتجاه القادم هو إضعاف المنظمة على حساب السلطة التي ستنحصر مسؤولياتها الإدارية والوطنية، في حدود الأراضي المحتلة سنة 1967، أو ما بقي منها ضمن إطار الحكم الذاتي المحدود

شبح الانقسام

في الأمثال الشعبية مثلٌ يقول “مجنون يلقي حجراً في البئر، لكن مائة عاقل قد لا يتمكنون من إخراجه”. الحجر الذي ألقاه الأعضاء الذين تقدموا باستقالاتهم أثار موجة كبيرة من الاحتجاجات وردود الفعل، وصلت إلى حد التهديد بإجراءات مقابلة، ما يعرض وحدانية منظمة التحرير إلى خطر داهم. سابقا لم يدع أحد، حتى في أشد مراحل الانقسام الفلسطيني، سواء أيام جبهة الرفض، أو خلال الانقسام بين “فتح” و”حماس”، رغبة في إيجاد بديل للمنظمة، أو إنشاء منظمة موازية، بقدر ما تراوحت المطالب بإجراء إصلاحات في بنية المنظمة، أو في آليات التمثيل فيها، أو في برامجها المرحلية. هذه المرة، يبدو الأمر أخطر بكثير، وشبح الانقسام بدأ يطل برأسه إلى داخل منظمة التحرير، بعد أن كان ضمن إطار الفصائل، أو فيما بينها، وكأنه يُراد القول إن منظمة التحرير الوطن المعنوي للفلسطينيين، وكيانهم الشرعي الجامع لهم، وممثلهم الوحيد وضع على سكة الانهيار.

أول هذه الملامح ما سربته مصادر عن لقاء ثلاثي، ضم الرئيس عباس وصائب عريقات ومدير المخابرات الفلسطينية العامة، اللواء ماجد فرج، تنبع منه رائحة ترتيبات لمستقبل العمل الفلسطيني، لا تليق بالمجتمعين، ولا صلة لها بتقاليد العمل الفلسطيني، وصلت إلى حد التدخل في اختيارات الفصائل ممثليها، والحديث عن وسائل ضغط أخرى، ستمارس على بعض المعارضين. وبعيدا عن هذه التسريبات الأمنية، نقل أيضا أن عريقات سيتولى رئاسة اللجنة التنفيذية المقبلة، في حين سيحتفظ عباس برئاسة السلطة الفلسطينية. وهذا في أبسط المفاهيم يعني قلب الهرم على رأسه، إذ من المفترض أن المنظمة هي الإطار القيادي الأعلى للشعب الفلسطيني، الأمر الذي يعني، بوضوح، أن الاتجاه القادم هو إضعاف المنظمة على حساب السلطة التي ستنحصر مسؤولياتها الإدارية والوطنية، في حدود الأراضي المحتلة سنة 1967، أو ما بقي منها ضمن إطار الحكم الذاتي المحدود، وبعيداً عن القضايا الكبرى، مثل عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.

الكرة الآن في ملعب رام الله، هل تستجيب للعقل والقانون، وتسحب استقالاتها ودعوتها، وتبقي على الجسد المريض لمنظمة التحرير في غرفة الإنعاش، إلى أن يتم التوافق على إعادة بناء المنظمة، ضمن أطر ديمقراطية وتمثيلية، لمخلتف شرائح الشعب الفلسطيني وأماكنه؟ أم تطلق عليه رصاصة الرحمة، وتنزع عنه أجهزة التنفس الاصطناعي، بإصرارها على عقد جلسة استثنائية يحضرها بضعة أفراد، ليقرروا حقيقة دفن منظمة التحرير، بدون جنازة مهيبة؟

وتبقى مسؤولية على الجاليات والتجمعات والمؤسسات الفلسطينية داخل الوطن، وفي المخيمات والشتات، أن تبادر إلى تنظيم أنفسها، وابتكار الصيغ التمثيلية الملائمة لظروفها، لعله من ذلك يولد المؤتمر التأسيسي الثاني، وتعود منظمة التحرير إلى أداء دورها، بعد أن غيبت منذ ربع قرن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى