دراسة دستورية الشغور.. والاستمرارية عصام نعمة اسماعيل
تضع الدساتير، عادةً، الأسس التي ترتكز عليها السلطات لضمان استمرارية أدائها لوظائفها منعاً لحدوث الفراغ، مع ما يعنيه هذا الفراغ من شللٍ في المؤسسات وتعطيلٍ لمصالح الناس، ولهذا نسمي القانون، بأنه أداة تنظيم المؤسسات والمرافق العامة في حالة الحركة، أما الجمود أو الشغور، فهو أمرٌ لا يكون في ذهن المشترع الذي لا يشرّع للفراغ، بل لا يخطر على باله أن القيّمين على السلطات يسعون جاهدين لخراب المؤسسات أو تفريغها من القيّمين عليها.
فالمشترع يحدد آلية انتقال السلطة، ويضع الحلول للحالات الطارئة الفجائية، أو لحالات التأخر في تأمين البديل للمسؤول أو الموظف الذي شغر مركزه بانتهاء الولاية أو الاستقالة أو الوفاة أو أيّ سببٍ آخر.
ولكن ما يحصل في لبنان، أن الاستثناء تحوّل إلى قاعدة دائمة، وأن الشغور في المراكز سيّما القيادية منها أصبح ملازماً للإدارات العامة والمؤسسات الدستورية، بل لقد امتد الشغور إلى وظائف الفئتين الثالثة والثانية في الإدارات العامة، بحيث طغت اللامبالاة، ثمّ الرغبة بتكليف المقرّبين والمحسوبين بتولي هذه الوظائف، بالرغم من أن التكليف يدخل ضمن المحظورات المعددة في المادة 49 من نظام الموظفين.
وفي المؤسسات الدستورية نجد أن الشغور أصابها مجتمعة، فلقد حلّ في مركز الرئاسة الأولى بامتناع مجلس النواب عن انتخاب رئيسٍ للجمهورية، منذ الجلسة الأولى تاريخ 23 نيسان 2014 ولغاية تاريخه، وكان الحلّ المبتدع بأن تتولى الحكومة صلاحيات الرئيس وكالةً، متذرعةً بالمادة 62 من الدستور، بالرغم من أن قصد المشترع الدستوري عند وضع هذا النص، هو لتفادي حالة الشغور المفاجئ ولفترةٍ زمنية قصيرة، إلا أن الحكومة استخدمتها لحالةٍ أخرى وهي حالة الامتناع عن انتخاب الرئيس.
كما حلّ الشغور في مؤسسة مجلس النواب، عندما أعلنت وزارة الداخلية والبلديات تعذّر إجراء الانتخابات النيابية لأسبابٍ عديدة ساقتها ومنها الأوضاع الأمنية في لبنان والمنطقة، فكان هذا الموقف بمثابة المحفّز لمجلس النواب على إصدار قانونين مدّد بهما ولايته (القانون الرقم 246 الصادر بتاريخ 31 ايار 2013، ثمّ القانون رقم 16 تاريخ 11 تشرين الثاني 2014) وبالرغم من افتقاد هذين القانونين للأساس الدستوري المبرر، ووصفهما بالتشريع الزائف وغير الدستوري، أو بتشريع الأمر الواقع، فإنهما كانا السند الذي ارتكز عليه مجلس النواب لتمديد ولاية أعضائه، ومنع حدوث الفراغ في السلطة التشريعية.
وكذلك فإن الحكومة في لبنان، تجاوزت أوقات شللها لأيام عملها الفعلي، حيث نعيش عصر أزمات الحكومات اللبنانية تأليفاً وممارسة، ومن الصعب بمكانٍ التوافق بسهولةٍ على تأليف الحكومة، كما أن المناكفة والتعطيل هما سمة العمل الحكومي. ونأخذ كمثال فقط: حكومة الرئيس تمام سلام، الذي جرى تكليفه بتشكيل الحكومة بتاريخ 7/4/2013، واستمرّ في مشاوراته حتى تاريخ 15/2/2014 . في هذه الأثناء كلّفت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بتصريف الأعمال، إلا أن المدّة الزمنية الطويلة لفترة تصريف الأعمال حتّمت ابتداع الحلول لمواجهة الاستحقاقات، وتلبية حاجة الدولة والمواطن، فصدر عن رئيس الحكومة التعميم رقم 10 تاريخ 19/4/2013 الذي أجاز اتخاذ القرارات ذات الطابع التصرفي التي تقتضي الضرورة اتخاذها في خلال فترة تصريف الأعمال، على أن يودع مشروع القرار رئاسة مجلس الوزراء للاستحصال بشأنه على الموافقة الإستثنائية لفخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس الوزراء.
هو طبعاً مخرج غير مقرر في الدستور، بل هو مخالف للمواد 17 و64 و65 و66 منه، لأنه أحلّ ثنائية (رئيس جمهورية- رئيس حكومة) محلّ مجلس الوزراء ومحلّ الوزير في وزارته. وكان المبرر لهذا التدبير هو استمرارية مؤسسات الدولة ومواجهة الشغور القصري الناجم عن استقالة الحكومة.
وفي فترة عمل حكومة الرئيس تمام سلام والمسماة “حكومة المصلحة الوطنية في شكل حكومة توافقية” (وفق التعبير الوارد في الييان الوزاري)، فإن السمة الملازمة لها هي حكومة الاعتكاف والمناكفة وتعذّر انعقاد الجلسات، وحكومة عدم الاتفاق على آلية عملها، مخالفةً بذلك ليس فقط البيان الوزاري، بل مبدأ التضامن الوزاري الذي أوجبته المادة 66 من الدستور، والذي يفترض منطقياً توفر التجانس بين الوزراء حول سياسة الحكومة المتفق عليها في البيان الوزاري الذي يبدو بمثابة الميثاق فيما بين أعضاء الحكومة. (ادمون رباط الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، منشورات دار العلم للملايين- بيروت- الطبعة الأولى 1971 ص 795). لكن واقع حكومة لرئيس تمام سلام هو بعكس ذلك، وأن مبدأ استمرارية عمل مؤسسات الدولة، حوّلها أسوةً بمجلس النواب، إلى حكومة أمر واقع لا يمكن الاستغناء عنها.
وأصاب الشغور المجلس الدستوري، الذي انتهت ولاية أعضائه العشرة بتاريخ 5 حزيران 2015، فجرى اعتماد الحلّ الاستثنائي المقرر في المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الصادر بالقانون رقم 243 تاريخ 7 آب 2000، على الآتي: “عند انتهاء الولاية، يستمر الأعضاء الذين انتهت ولايتهم في ممارسة أعمالهم الى حين تعيين بدلاء عنهم وحلفهم اليمين.
وهكذا يستمرّ أعضاء المجلس الدستوري الحاليين في عملهم بقوّة القانون، فلا تمديد للولاية ولا تجديد وإنما هي استمرارية تتوقّف فور تعيين وانتخاب البديل. مع التذكير فقط إلى أن رئيس وأربعة من أعضاء المجلس الدستوري السابق قد أعلنوا بتاريخ 8 آب 2005 عن رفضهم مبدأ الاستمرارية وامتنعوا عن حضور جلسات المجلس الدستوري، مطالبين السلطات الدستورية الالتزام بواجبها وتعيين البديل، وللأسف لم تستجب السلطات المعنية لمطلبهم إلا بتاريخ 5/6/2009، وبقي المجلس الدستوري معطلاً حتى ذاك التاريخ.
وما يسري على المؤسسات الدستورية، يسري أيضاً على الإدارات العامة، فهاجس ضمان الاستمرارية رافقت تعيين حاكم مصرف لبنان الذي يجدد له منذ العام 1993، وفي العام 2011 جرى نقاش قانوني حول كيفية التمديد له في ظلّ حكومة تصريف الأعمال، وكيف نتفادى الفرغ في هذا الموقع الرسمي الحساس جداً، بل سعى بعض النواب إلى اقتراح قانون خاص للتمديد للحاكم في حال تعذر ذلك وفق الأصول العادية. (محفوظ سكينة- التجديد لحاكم مصرف لبنان عن طريق قانون.. هل هو جائز- جريدة السفير تاريخ 12 أيار 2011)، وبالفعل صدر مرسوم التمديد لحاكم مصرف لبنان يحمل الرقم 5872 تاريخ 19/7/2011.
وفي قيادة الجيش، أدى تعذّر التوافق في مجلس الوزراء على تعيين قائد جديد للجيش، إلى البحث عن مخرجٍ يمنع الفراغ في المؤسسة العسكرية، فجرى الاستعانة بالفقرة الثانية من المادة 55 من قانون الدفاع الوطني الصادر بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 102 تاريخ 16/9/1983، التي أجازت تأجيل تسريح المتطوع ولو بلغ السن القانونية بناء على قرار وزير الدفاع الوطني المبني على اقتراح قائد الجيش في حالات الحرب او اعلان حالة الطوارىء او اثناء تكليف الجيش بالمحافظة على الامن.
وبالرغم من عدم تحقق الشروط المقررة في هذه المادة لتأجيل تسريح قائد الجيش وأعضاء في المجلس العسكري، فإن وزير الدفاع أقدم على اتخاذ هذه القرارات تجنباً لمخاطر شغور مركز القيادة في وقت حرج في ظل العجز عن التعيين الذي يتطلب وفاقا سياسيا مفقودا لا يؤمل تحققه في المدى المنظور.
وطاول الشغور أيضاً المؤسسات العامة، إلا أن هذا الشغور لم يثر انتباه السلطة التنفيذية، ونكتفي للدلالة على ذلك من خلال الإحالة إلى دراسة أعدتها الدولية للمعلومات( جريدة السفير تاريخ 21 تموز 2015) التي تبيّن منها انتهاء ولاية 45 مجلس إدارة مؤسسة عامة ( ومن بينها مؤسسات مكلّفة بمهمات خدماتية كبرى،: هيئة أوجيرو- مؤسسة كهرباء لبنان- مجلس الإنماء والإعمار) ومع ذلك يستمّر أعضاؤها في ممارسة مهماتهم استناداً إلى الفقرة الثانية من المادة 6 من النظام العام للمؤسسات العامة التي تنصّ على أن:” يستمر مجلس الادارة القائم ، بمتابعة اعماله حتى تعيين المجلس الجديد”.
ولم يكن الحال أقلّ سوءاً في الإدارة المركزية، حيث طال الشغور، ومنذ فترة طويلة مختلف الفئات القيادية في الوظيفة العامة (وظائف الفئات الأولى والثانية والثالثة)، ومع ذلك لم تتحمّس السلطة التنفيذية إلى ملء الشغور في الوقت المناسب، إذ حتى تاريخه يوجد مئات المراكز الشاغرة التي يستعاض عن التعيين أصالة أو وكالة أو انتداب، أو ترفيع موظفين لتولي هذه الوظائف أصولاً (وظائف الفئتين الأولى والثانية)، بل يلجأ الوزراء إلى وسائل غير قانونية لضمان استمرارية المرفق العام، فتملء المراكز الشاغرة بالتكليف أو الإنابة بالرغم من أن المادة 49 من قانون الموظفين تعتبرها صراحةً حالات غير قانونية (م.ش. قرار رقم 560/2013-2014 تاريخ 16/4/2014- شركة موسكانت / وزارة الاتصالات).
إذٍ وبالمحصلة، فإن الشغور هو سمة الغالبة في واقع المؤسسات الدستورية والإدارية، وكان تلافي هذا الشغور يتمّ تطبيقاً لمبدأ وجوب استمرارية المؤسسات الإدارية والدستورية في عملها، حتى وإن خرجنا عن الأصول المرسومة قانوناً لضمان هذه الاستمرارية. وسواءً أكانت التدابير المتخذة لضمان الاستمرارية موافقة للقانون أم مخالفة له، فإن الهيئات الرقابية والقضائية قد اتخذت موقفاً ثابتاً بالقبول بهذا الواقع، لأن المحافظة على استمرارية المؤسسات، هو واجب ليس فوقه واجب، وإن الإخلال به يشكل خطأً جسيماً بل هو جرم جزائي يعاقب عليه القانون. وهكذا تحوّل الشغور من حالةٍ عابرةٍ، إلى هاجس مقلق دفع بالهيئات القضائية والرقابية إلى ابتداع الحلول لمواجهته، فتوحّدالجميع حول مبدأ الاستمرارية. ونعرض هذه الحلول كما يأتي:
أولاً: معنى الاستمرارية في عمل حكومة تصريف الأعمال
قضى مجلس شورى الدولة بأن نظرية تصريف الاعمال هي نظرية معدة للتطبيق خلال فترة زمنية محددة انتقالية يجب ان لا تتعدى الاسابيع او حتى الايام. وان تمددها لفترة اطول لا بد ان ينعكس على مفهومها برمته حتى يستطيع تحقيق الهدف منها وهو تأمين استمرارية الدولة ومصالحها العامة ومحالح المواطنين. فإذا امتدّت هذه الفترة الانتقالية لعدة أشهر فانه يصبح من الواجب التعامل مع هذا الواقع بشكلٍ يسمح للحكومة تأمين استمرارية المرافق العامة وتأمين مصالح المواطنين التي لا يمكن ان تنتظر لمدة اطول خاصة اذا كانت ممارسة تلك الحقوق ناتجة عن اعمال ادارية قانونية مستوفية لكافة الشروط المفروضة في القوانين والانظمة وهي تؤمن مصالح فردية مشروعة دون ان يكون لها الطابع التنظيمي العام او تحد من حق الحكومة المقبلة في ممارسة صلاحياتها الاستنسابية.
م.ش. قرار رقم : 349/2014-2015 تاريخ 23/2/2015 طانيوس يونس ورفاقه/ الدولة.
ثانياً: استمرارية أعضاء مجالس الإدارة في ممارسة أعمالهم حتى في حالة وجود نصّ مخالف
توافق على هذا الرأي كلاً من هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل وديوان المحاسبة، وجاء رأيهما متطابقاً في الملف المتعلق بمعرفة الجهة التي يناط بها إدارة الهيئة المنظمة للاتصالات بعد انتهاء ولاية أعضائها في العام 2011 .
1- فتوى هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل
أفتت هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل بأن المادة 6 من قانون تنظيم قطاع الاتصالات تنص على أن تتألف الهيئة من رئيس واربعة اعضاء متفرغين بدوام كامل، يعينون بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزير لمدة خمس سنوات، غير قابلة للتجديد او التمديد، ولا يجوز عزل أي منهم أو انهاء خدمته الا للأسباب المبينة في هذا القانون. من دون أن تتبصّر المادة 6 اعلاه الى ما تبصّر له النظام العام للمؤسسات العامة (المرسوم رقم 4517/72) صراحة من استمرار “مجلس الادارة القائم (المنتهية ولايته) بمتابعة أعماله حتى تعيين المجلس الجديد”،
فهل أن المشترع – الذي لا يمكن للقاضي مفسّر النصوص إلا أن ينسب اليه سلامة الإدراك والتفكير ونيته في تفعيل المؤسسات التي ينشئها لا في تعطيلها- قد قصد يا ترى من خلال المادة 6 من قانون انشاء الهيئة المنظمة للاتصالات، معطوفة على المادة 4 منه القائلة بعدم خضوع الهيئة لاحكام النظام العام للمؤسسات العامة، استبعاد تطبيق القاعدة في المادة 6 من المرسوم رقم 4517/72 التي لا تعدو كونها تكريساً للاجتهاد الذي بنى نظرية “استمرار المرفق العام” من قبل المنتهية ولايتهم، المبنيّة بدورها على نظرية الظاهر أو قل الموظف الفعلي، الى حين تعيين مجلس الادارة الجديد، لأجل ايلاء صلاحية إدارة شؤون مجلس الادارة المتهية ولايته، الى وزير الوصاية أو الى من يتعاقد معه هذا الاخير لهذه الغاية.
حيث أن هذه الهيئة لا تتردد لحظة في ترجيحها القول بأن المشرع قصد تحرير الهيئة المنظمة للاتصالات من كل ما يتعارض من احكام المرسوم رقم 4517/72 مع احكام قانونها، لا أكثر ولا أقل، وما دام أن القانون رقم 431/2002 بقي صامتاً عن مسألة تحديد الجهة التي تستمر في ادارة شؤون الهيئة بعد انتهاء ولاية رئيسها وأعضاء مجلس ادارتها الى حين تعيين البديل وفقاُ للأصول، صامتاً مطمئناً الى صمته، فهذا يعني أنه استكان الى امكانية استعارة حكم المادة 6 من المرسوم رقم 4517/72، عير المتعارض، مع اي حكم من احكام القانون رقم 431/2002، وتطبيقه على الحالة موضوع الاستشارة، اذ بوجود النص المكرّس للاجتهاء لا يلجأ القاضي الى الاجتهاد بل الى النص ويتخذه حجة.
حيث أن مبدأ استمرارية المرفق العام، هو من المبادئ العامة الجوهرية التي تحتم استمرار مجلس الهيئة المنظمة للاتصالات، المنتهية ولايته، بالقيام بأعماله حتى تعيين البديل تحت سلطة وصاية الوزير ضمن دائرة القرارات التي تخضع لهذه الوصاية الذي كرّسه الاجتهاد الاداري، سيما انه يستحيل أن يقوم الوزير بأعمال مجلس الادارة لعدم جواز الجمع بين سلطة التقرير وسلطة المراقبة والتصديق أو عدم التصديق في آن واحد.
هيئة التشريع والاستشارات، الرأي رقم 1022/2014 تاريخ 31/12/2014
2- فتوى ديوان المحاسبة
أفتى ديوان المحاسبة بأن اعتبار الهيئة المنظمة للاتصالات من اشخاص القانون العام يجعلها خاضعة للمبادئ العامة التي ترعى عمل الادارات العامة، والمطبقة في مجال القانون الاداري العام وابرزها مبدأ استمرارية المرافق العامة، وأن تطبيق هذا المبدأ على عمل الهيئة المنظمة للاتصالات يفرض الاخذ بكافة النتائج المترتبة على المبدأ المذكور. ذلك أن اعطاء مبدأ استمرارية المرافق العامة قوة القاعدة القانونية او النص الدستوري دفع المشترع اللبناني الى تكريسه صراحة بنصوص قانونية، ومنها على سبيل المثال نص المادة السادسة من النظام العام للمؤسسات العامة الصادر بالمرسوم 4517 تاريخ 13/12/1972 التي نصت على استمرارية مجلس ادارة المؤسسة العامة الذي انتهت ولايته بمتابعة اعماله حتى تعيين المجلس الجديد.
وما ينطبق على مجالس ادارة المؤسسات العامة ينطبق على مجلس ادارة الهيئة المنظمة للاتصالات التي تعتبر من اشخاص القانون العام وينطبق عليها مبدأ استمرارية المرافق العامة بكافة نتائجه حتى من دون وجود اي نص صريح على ذلك.
ديوان المحاسبة الــرأي 11/2012 تاريخ 8/3/2012
ثالثاً: اللجؤ إلى ملء الشواغر بالتكليف والإنابة خلافاً لأحكام القانون
ذكرنا أعلاه بأن الشغور في الإدارات العامة كان ملفتاً لناحية حجمه، وامتداده الزمني، وكانت السلطة المكلّفة بملء الشغور غير مهتمة بهذا الاستحقاق، ولذلك جرى اعتماد الحلول غير القانونية (الإنابة خلافاً للنص والتكليف…) وهي حلول لم يجد القضاء وأجهزة الرقابة أي مفرٍّ من القبول بها واعتبارها حالة أوجبتها استمراية المرافق العامة، إلا أن اللافت هو اختلاف التفسيرات المعتمدة وإن صبّت جميعها في خانة الإذعان حفاظاً على مبدأ الاستمرارية. ونعرض فيما يلي هذه الآراء المختلفة:
1- فتوى ديوان المحاسبة بوجوب التكليف
تقدّمت إدارة الجمارك العامة من ديوا ن المحاسبة بطلب بيان الرأي حول تحديد الجهة الصالحة لتأمين استمرارية العمل في المجلس الاعلى للجمارك في ظل عدم وجود هيئة نظراً لإحالة العضوين المناوبين على التقاعد لبلوغهما السن القانونية.
فكان لديوان المحاسبة موقف متميّز تجلّت أهميته لناحيتين: الأولى أنه منع تطبيق قاعدة الاستمرارية على من بلغ السن القانونية للتقاعد، والثاني: أنه أجاز اللجوء إلى التكليف بالرغم من عدم قانونيته، على أن يصدر قرار التكليف عن الوزير المختص ورئيس الحكومة.
وأبرز ما ورد في هذه الفتوى: إن الاجتهاد مستقر على انه، وعند استحالة اتباع الأصول العادية ويتعذر بالتالي تعيين هيئة المجلس حسب الأصول، تصبح الأصول غير العادية شرعية ومعمولاً بها طالما الهدف منها تسيير المرفق العام وتلافي اي ضرر يمكن ان يلحق بالمصالح العمومية. وينبني على ما تقدم، وجوب قيام السلطة السياسية (رئيس حكومة تصريف الاعمال ووزير المالية) بتكليف موظفين اثنين تابعين لادارة الجمارك بمهام عضوي الهيئة شرط ان يكونوا من الفئة الثانية كي يتمكنوا مع المدير العام الحالي من تسيير اعمال المجلس بما يؤدي الى استمرارية المرفق العام بانتظام وذلك بما تقتضيه المصلحة العامة لأن ادارة الجمارك هي من المرافق العامة الحيوية وأي تعطيل للعمل فيها لا بد وان يلحق الخسارة بالمصالح العمومية.
ديــوان المحـاسبة، الــرأي :33/2013 تاريخ 17/7/2013
2- فتوى مجلس الخدمة المدنية بقبول الإنابة على مضض
لا يحبّذ مجلس الخدمة المدنيّة الإنابة في حالة الشغور الوظيفي، حيث جاء في رأي له: “لما كانت الإنابة ترمي إلى تأمين استمرارية المرفق العام في حال خلو الوظيفة بصورة غير متوقعة . ولما كان حسن سير المرفق العام في بلدية صيدا يقضي بمعالجة مسألة الفراغ الحاصل في وظيفة رئيس مصلحة الشؤون الإدارية والمالية . لذلك رأت هيئة مجلس الخدمة المدنية أن تعمل بلدية صيدا على تعيين احد موظفيها رئيساً لمصلحة الشؤون الإدارية والمالية بالوكالة، وفي حال تعذر ذلك ، فإنه يمكن اعتماد حالة الإنابة وذلك لتأمين استمرارية المرفق العام لدى البلدية المذكورة.
مجلس الخدمة المدنية الرأي رقم 1175 تاريخ 4/12/2008 الموجه إلى وزارة الداخلية والبلديات.
3- اجتهاد مجلس شورى الدولة بقبول قرارات صادرة عن موظف مكلّف بمهام الوظيفة
صدر هذا الاجتهاد في معرض الطعن بقرار صادرٍ عن محافظ بالتكليف، اضطر المجلس في هذه القضية للإجابة حول الطعن المدلى به من المستدعي حول عدم اختصا الجهة مصدرة القرار لأنها معيّنة خلافاً للأصول، فقضى المجلس أنه بصرف النظر عن مدى قانونية تعيين المحافظ مصدر القرار المطعون فيه فان الفقه والاجتهاد استقرا على اعتبار ان الاعمال الصادرة عن موظف معين بصورة غير قانونية تبقى صحيحة ومعتبرة قانونية طالما ان تعيينه لم يبطل ، وانه لا يمكن الطعن في تعيينه بطريق الدفع وانه حتى في حال صدور قرار ابطال تعيينه ، فلا يكون لهذا الابطال أي مفعول رجعي وتبقى الاعمال الصادرة عنه قبل تاريخ الابطال صحيحة. وأن الاجتهاد مستقر أيضاً على اعتبار أن تعيين الموظف حتى بصورة مخالفة للقانون يوليه صلاحيات الوظيفة التي عين فيها ، وذلك حتى ابطال هذا التعيين، وقد اعتمد الاجتهاد الاداري هذا الحل بالاستناد الى نظرية الظاهر ومن اجل تسيير المرفق العام واستقرار الاوضاع الادارية والحفاظ على حقوق الافراد المكتسبة من جهة اخرى.
“م.ش. قرار رقم :332/2007-2008 تاريــخ 29/1/2008 بشارة يوسف زغيب ورفاقه/ الدولة – وزارة الداخلية والبلديات، مجلة العدل العدد3/2008 ص 1110.
4- اجتهاد مجلس شورى الدولة بإعلان شروعية قرار صادر عن وزير مع أن الصلاحية هي لمديرية تابعة له.
قضى مجلس شورى الدولة أنه عندما يعين القانون صلاحية خاصة لسلطة ادارية معينة، كالمديرية العامة للآثار، فإنه لا يمكن من حيث المبدأ لرئيسها التسلسلي، اي وزير الثقافة، ان يمارس هذه الصلاحية. ولكن لما كان وزير الثقافة قد اتخذ القرار بسبب شغور وظيفة مدير عام الآثار، وبسبب شغور سائر وظائف الفئة الثانية في المديرية العامة للآثار، وبالتالي بسبب استحالة اتخاذ القرار وتسيير المرفق العام إلا من خلال قيام الوزير بذلك. وأنه إزاء هذا الواقع يقتضي العودة الى نص المادة 66 من الدستور التي تنص على ان “يتولى الوزراء ادارة مصالح الدولة ويناط بهم تطبيق الانظمة والقوانين كل بما يتعلق بالامور العائدة الى ادارته وبما خص به”. وبالتالي عند حصول حالة شغور كالحالة الحاصلة في القضية الحاضرة واستحالة تأمين سير المرفق العام وفق القواعد والصلاحيات التي حددتها النصوص الخاصة الراعية لعمله، فانه يقع على عاتق الوزير تأمين استمرارية المرفق العام وذلك بأن يتخذ بنفسه ما يقتضيه ذلك من قرارات.
“م.ش. قرار رقم :332/2007-2008 تاريــخ 29/1/2008 بشارة يوسف زغيب ورفاقه/ الدولة – وزارة الداخلية والبلديات، مجلة العدل العدد3/2008 ص 1110.
رابعاً: استمرارية مجلس النواب المدد لنفسه كأمر واقع
تقدّم نواب التكتل التغيير والإصلاح بطعن أمام المجلس الدستوري مطالبين بإبطال قانون تمديد ولاية مجلس النواب، إلا أن المجلس الدستوري قضى بردّ هذا الطعن معللاً حكمه بالحيلولة دون التمادي في حدوث الفراغ في المؤسسات الدستورية. هي الخلاصة التي انتهى إليها المجلس الدستوري، فأطلق بدايةً موقفاً حازماً بأن الفراغ في المؤسسات الدستورية يتعارض والغاية التي وجد من اجلها الدستور، ويهدد النظام بالسقوط ويضع البلاد في المجهول، لكنّ ابطال قانون التمديد المخالف للدستور، في الوضع الراهن، قد يؤدي الى فراغ في السلطة الاشتراعية، يضاف الى الشغور في رئاسة الجمهورية، ما يتعارض جذريا والدستور، لذلك ومنعا لحدوث فراغ في مجلس النواب وقطع الطريق بالتالي على انتخاب رئيس للجمهورية، يعتبر التمديد امرا واقعاً (عصام إسماعيل- مجلس نواب الأمر الواقع- مجلة الحقوق والعلوم السياسية العدد 3/2014 ص).
أبرز ما تضمّنه اجتهاد المجلس الدستوري من حيثيات ذات صلة بمفهوم الاستمرارية: إن انتظام أداء المؤسسات الدستورية هو اساس الانتظام العام في الدولة، ويقتضي قيام كل مؤسسة دستورية، ودون ابطاء، بالمهام المناطة بها، ضمن الصلاحيات المعطاة لها، وفي اطار القواعد والمبادىء التي نص عليها الدستور، وان الفراغ في المؤسسات الدستورية يتعارض والغاية التي وجد من اجلها الدستور، ويهدد النظام بالسقوط ويضع البلاد في المجهول، وحيث أن قانون تمديد ولاية مجلس النواب صدر قبل انتهاء الولاية بتسعة ايام فقط، وقدم الطعن في دستوريته قبل اسبوع من انتهاء الولاية، ما ادى الى تقليص الخيارات امام المجلس الدستوري الى حد كبير، وأن ابطال قانون التمديد المخالف للدستور، في الوضع الراهن، قد يؤدي الى فراغ في السلطة الاشتراعية،يضاف الى الشغور في رئاسة الجمهورية، ما يتعارض جذريا والدستتور، ذلك ومنعا لحدوث فراغ في مجلس النواب وقطع الطريق بالتالي على انتخاب رئيس للجمهورية، يعتبر التمديد امرا واقعا.
المجلس الدستوري القرار رقم 7/2014 تاريخ 28/11/2014 بشأن الطعن بقانون تمديد ولاية مجلس النواب
خلاصة:
نخلص من العرض السابق أن الشغور والفراغ في مؤسسات الدولة الدستورية والإدارية، أصبح واقعاً مألوفاً، وأن السلطات العامة تتعامل مع هذا الواقع من خلال اللجوء إلى بدائل تكون أحياناً غير دستورية وغير قانونية، متذرعين بمبدأ استمرارية وانتظام أداء المؤسسات الإدارية والدستورية. وإذا كان هذا المبدأ قد دفع الاجتهاد وهيئات الرقابة إلى إضفاء مشروعية استثنائية على تصرّف السلطات العامة والقبول بالمقررات المتخذة بذريعة الاستمرارية. لكن ما ليس مقبولاً أن نحوّل الاستثناء إلى قاعدة دائمة لا نبذل أدنى جهدٍ للخروج منها وفق الأصول القانونية المعتمدة.
أستاذ في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية.