نظام النهب الريعي المتوحش
غالب قنديل
اجواء الغضب الشعبي التي ولدتها ازمة طوفان النفايات في لبنان عبرت عن تصادم كامن ومكبوت بين الجمهور العريض والحكم القائم منذ اتفاق الطائف وانطلاق العهد النيوليبرالي بقيادة المرحوم رفيق الحريري الذي تزعم عملية معقدة ومتشابكة حشد لها الدعم الدولي والإقليمي لينسج نظاما سياسيا واقتصاديا وماليا يمكن تسميته بنظام النهب الريعي الذي يستخدم فيه النافذون من جماعات سياسية وحزبية مشاركة في السلطة مواقعهم ونفوذهم في مؤسسات السلطة وإدارات الدولة لممارسة نهب منظم للمال العام بشراكة وثيقة مع اوليغارشية مالية ومصرفية مسيطرة ومستبدة تؤول إليها معظم الثروات الباقية في البلد .
أولا قضية النفايات كملف من ألفه إلى يائه تشبه في مسارها قضية الكهرباء بعد الحرب وتشبه ملف الدين العام الربوي الذي أغرق الدولة وأرهق الاقتصاد الوطني وفي الحاصل يظهر للمتابع في ذلك كله تواطؤ منظم بين ما يدعى بطبقة سياسية وشريحة مالية مصرفية ضيقة ورقيقة في شراكة لنهب المال العام باسم الخدمة العامة بينما يحزون بالشراكة رقاب الناس بالرسوم والضرائب لقاء خدمات باقية تحت رحمة جشعهم ولصوصيتهم المحصنة بقوة القانون والمسورة بالعصبيات الطائفية وبعدما وضعوا أيديهم على النقابات والأحزاب واخمدوا نزعات الاعتراض بدورات التدجين والتيئيس .
يتحول الاعتراض والصراخ الإعلامي في هذا المناخ إلى نوع من التهريج والتفريج المشهدي الذي يؤتي عكس المفترض بتنفيس أي نزعة جدية لمقاومة ما يجري وطالما بيد الطبقة الحاكمة مفاتيح جنتها السياسية والمالية التي تحمل ختم المرجعيات الدينية والطائفية الجاهزة لصرخة ” واطائفتاه ” دفاعا عن الزعماء المشاركين عبر المحاسيب في دورة السرقة والنهب إن تجاسر احد على التلفظ بأسمائهم وبأرقام ثرواتهم او على فضح تلاعبهم بالشأن العام وحتى لو جاء التلفظ تعبيرا عن تناهش وتنافس بين النافذين انفسهم كما حصل في التلاسن حول النفايات وشراكات سوكلين القديمة والمستجدة.
ثانيا الخصخصة وصفة تبنتها الحريرية سبق ان أطلقها الأميركيون في تصورهم عن مستقبل لبنان منذ عام 1976 واقترحوا يومها في مذكرة إنهاء عهد أمراء الطوائف في نظام 1943 تحويل الميليشيات الطائفية إلى سلطات محلية وشركات مناطقية تسير المرافق العامة وتنهب ريع التشغيل من المالية العامة بديلا عن خوات الأمر الواقع وحواجز الجباية التي أقامتها خلال حرب السنتين وقد أبدع المرحوم الحريري تطبيقا للوصفة الأميركية والفه مع التشدد السوري في حماية هياكل الدولة المركزية بعد الطائف ورفضهم لأي وصفة تحمل شبهات تقسيمية تحت عنوان اللامركزية فأبقى هياكل المؤسسات وقام بخصخصة الوظيفة العامة والخدمة العامة معا من خلال الرواتب الموازية داخل إدارات الدولة ومؤسساتها بدءا من مجلس النواب ومن خلال التلزيم المتمادي للخدمات العامة والمرافق العامة إلى شركات خاصة كانت سوكلين إحداها وقد أنيطت بها سلطات المجالس البلدية بالجملة وجيرت لأمرها موازنات صندوقها لأداء خدمة عامة بكلفة مضاعفة وعطلت لحسابها جميع المشاريع المجدية اقتصاديا لمعالجة النفايات بصورة تناسب سلامة البيئة وشروط الصحة العامة .
هذا النظام القائم على النهب الريعي طحن الطبقات الوسطى في المجتمع ودمر البنى الإنتاجية الزراعية والصناعية وحكم على السياحة بالتخلف والعجز في دورة بدائية قوامها المطاعم والكازينوات والمرابع والدعارة المنظمة من غير اي خطة لتصنيع السياحة او تسويقها وفق المعايير العالمية المجدية والتنافسية.
ثالثا تحول هذا النظام إلى قوة طرد عكسية نابذة للقوة المنتجة الفتية والمؤهلة علميا من خلال نزيف متواصل للطاقات الشابة والطموحة المهاجرة إلى الخارج هربا من جحيم البطالة القسرية .
والنتيجة الفعلية للتهميش والتدجين : نقابات كسيحة وواجهية لمواسم المطالب تضرب بعنف وبشبه إجماع حين تقاوم واحزاب مستمرة بقوة العادة تجيد الصراخ والتبرير وتستغرق في دورة اجترار اعتراضاتها وانتقاداتها عند انفجار الأزمات وتقف عاجزة عن إطلاق حركة شعبية ببرنامج تغييري بينما الجمهور الناقم يستفيق ويغفو بفعل تلمس مخارجه الخاصة عبر واردات جانبية ترمم مدخوله المتناقص في دورة الاقتصاد مرة بفعل التمويل السياسي ومرات بفعل التحويلات الخارجية الواردة من الأقارب والأبناء لترميم المداخيل المتآكلة والعبرة ان جميع اللبنانيين يبحثون عن حلولهم الفردية من خارج الانتظام الجمعي في هياكل دولة أودورة اقتصاد او بنية مجتمع ، فالفردية النابذة لفكرة الجمع ثقافة لبنانية متأصلة وقديمة لكنها ضاعفت قبحها وانانيتها في عالم الرأسمالية المتوحشة التي تبيح أي شيء لصالح الفرد الأناني المطلق داخل أي من مفردات كينونته الاجتماعية ومحدداتها .
مقاومة هذا النظام المتوحش البشع والمدمر المناقض لأي قيمة إنسانية تفترض بداية نقده فكريا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا وعملا تنويريا مستداما وكفاحا متواصلا لخلخلة بناه العفنة والمتقيحة والنفاذ إلى ذلك عبر أي مدخل متواضع لالتقاط فرص تائهة لإحداث التغيير المنشود فدورة انفجار الغضب والاعتراضات الموسمية سوف تتكرر لكن السؤال من يحصد من الخضات وعيا جديدا وانتظاما يتوسع لقوة تغيير حقيقية إن لم توجد جماعة مهما كانت متواضعة تنتدب نفسها لتلك المهمة ؟ وأين هي جماعات اليسار المتجذرة التي تتناغم والمقاومة في فعلها العظيم بالتصفيق لإنجازاتها ضد الكيان الصهيوني وعصابات التكفير ولديها فرصة المراكمة بالوعي والتجربة لما يستكمل المشهد الوطني ببعده الاجتماعي والسياسي فيعتق المقاومة من أحمال صعبة ومعقدة ؟