إيران وما كتب في فيينا
غالب قنديل
يتباهى المتحدثون الأميركيون بنوبات التشدد التفاوضي التي يستعرضونها إعلاميا في جهد مدروس لإخراج الاتفاق على انه أفضل الممكن امام الراي العام في الولايات المتحدة ولتحصين موقف الرئيس أوباما وإدارته في وجه حملات الجمهوريين واللوبي الصهيوني قبل عرض الاتفاق امام الكونغرس للمصادقة عليه في حين يتركز الاستعراض الفرنسي على تلبية الإلحاح السعودي والإسرائيلي في اختبار فرص الضغط خلال الساعات الاخيرة .
أما الوفد الإيراني فيثابر على التصرف برصانته المعهودة حيث تخضع أدق التفاصيل للنقاش في فيينا ويتشدد المفاوضون الإيرانيون في تمحيص الصياغات باللغتين الفارسية والإنكليزية لتفكيك الأفخاخ والمطبات ولتلافي النصوص الملتبسة واستباق التأويلات المحتملة وحيث تفيد المعلومات الصحافية أن النقاط الخاضعة للمراجعة تخطت المئة في نص الإعلان الختامي والملحق وباللغتين وتتحرك العبارات والكلمات بين فيينا وطهران وتخضع للتمحيص والتقليب وهي تطال شؤونا قانونية ومالية ومصرفية وتقنية شائكة ومعقدة ومتشعبة لكن صانع السجاد ولوع بالتفاصيل ومجبول بالصبر وبطول البال يدقق في كل خيط ملامح اللون وتموجاته ويختار الحبكة في كل قطبة فتلك تفاصيل لها فعلها الأكيد في إطلالة اللوحة التي يرسمها بإتقان.
ما كتب قد كتب والاعتراف بإيران القوة العظمى تحقق منذ انطلاق مفاوضات الخمسة زائد واحد زائد إيران ففي المعنى السياسي والاستراتيجي كانت تلك الصيغة هي الإعلان الرسمي عن قبول عضوية إيران في نادي القوى العظمى وظلت بعده المناقشة في شروط العضوية القابلة للتعديل في سياق تحول ميزان القوى الذاهب نحو تراجع الهيمنة الأميركية الأحادية لصالح انبثاق قوى عالمية جديدة وتوازنات تبدت منذ قيام مجموعة البريكس ومنظمة شانغهاي الآخذة في التوسع كما برهنت الاجتماعات التي شهدتها روسيا بالتزامن مع مباحثات فيينا ومع اعتراف الخبراء الغربيين بحقيقة انزياح مراكز الثروة الكونية إلى دول الشرق والجنوب وهي حقيقة تم تظهيرها سياسيا داخل مجلس الأمن الدولي منذ الفيتو الصيني الروسي المزدوج حول سوريا .
سيأتي الإنجاز التاريخي الإيراني بعد ست عشرة جلسة تفاوضية منذ اتفاق جنيف الذي أعقب إسقاط ضربة أوباما لسوريا وبعد اثني عشرعاما من التفاوض والصراع شهدت حرب تموز 2006 التي فشلت بموضوعها وبوصفها مناورة لحرب أشمل وحربا عالمية على سوريا شريكة إيران في محور المقاومة وصراعا مستمرا ضد حلفاء إيران الأقربين روسيا والصين ودول البريكس وبعد ستة وثلاثين عاما من الحصار والعقوبات منذ انتصار الثورة الشعبية التحررية التي رفعت راية الاستقلال ومقارعة الحلف الصهيوني الإمبريالي في المنطقة وهي سنوات تكبد خلالها الشعب الإيراني تضحيات كبيرة وقادت خلالها القيادة الإيرانية بزعامة قائد الثورة الإمام الخميني ومن ثم بقيادة رفيقه وخليفته صاحب العقل الاستراتيجي المتميز آية الله السيد علي الخامنئي مقاومة مبدعة وتحركت وفقا لقاعدة تحويل التهديد إلى فرصة فأطلقت ثورة صناعية عظيمة تحت الحصار وبإرادة استقلالية حرة في بلد غني بالموارد المتنوعة وبنت أجيالا من المهندسين والخبراء والمنتجين المؤهلين علميا وتقنيا وراكمت قوة عسكرية عملاقة مؤهلة للدفاع عن قلعة مهمة من قلاع التحرر ومقاومة الاستعمار في العالم بينما قدمت إمكانات ومساهمات جليلة في دعم مستمر ومتواصل لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين ورسخت شراكة مصيرية معها ومع الجمهورية العربية السورية توأم الجمهورية الإسلامية في مشروع تحرير الشرق من الهيمنة الاستعمارية الصهيونية.
الحقائق الجديدة سوف يتلاحق انبثاقها وظهورها فالثورة الصناعية الإيرانية سوف تتسارع ومحور المقاومة والاستقلال سوف يتوسع وتشتد قوته وتزيد قدراته وسريعا سيتحول إلى رابطة آسيوية كبرى عابرة للحدود تمتد من سوريا والعراق واليمن ولبنان إلى عمق آسيا الوسطى وبشراكة عضوية سوف تزداد متانة مع روسيا والصين ،مسار ليس مفروشا بالورود بل دونه معارك وتحديات سياسية واقتصادية وعسكرية زرعها الحلف الاستعماري الصهيوني مسبقا لاستنزاف فائض القوة الإيراني لكن توازن القوى المتغير سوف يراكم المزيد من القدرة لإيران ولشركائها رغم التصميم الأميركي على متابعة الاستهداف بأدوات القوة الناعمة وعبر الحرب الباردة ومن خلال حروب الاستنزاف الدائرة في سوريا والعراق واليمن لعرقلة نهوض الخيار التحرري الذي هو حليف طهران الطبيعي وشريكها.