اليونان : خيار عالمي جديد
غالب قنديل
شكل الاستفتاء العام الذي شهدته اليونان الأحد محطة نوعية في مسار التحول الذي تشهده البلاد منذ انتصار تحالف القوى اليسارية الجديدة “سيريزا ” في الانتخابات التشريعية الأخيرة وسطوع نجم رئيس الحكومة الحالي والزعيم الشعبي أليكسيس تسيبراس فنسبة التأييد الشعبي الكبير التي حققها خيار التمرد على إملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومجموعة الدائنين الدولية ورفض رزمة التدابير التقشفية الجديدة التي اشترطها الدائنون كانت بمثابة انتفاضة شعبية يونانية استقلالية وتعبيرا عن مصالح اليونان في وجه تسلط الاحتكارات البنكية متعددة الجنسيات التي تستخدم المديونية كأداة إخضاع اقتصادية وسياسية ضد العديد من الدول في العالم .
أولا التمرد اليوناني يطلق خيارا جديدا في التعامل مع مشاكل الديون التي تثقل كاهل العديد من الدول وحيث يعمم البنك الدولي وصندوق النقد سلسلة شروط والتزامات على حكومات الدول المدينة ترتكز على فرض التقشف وضرب الضمانات الاجتماعية والتقديمات التي توفرها الدول لمواطنيها وهي أداة استعملت خلال عشرين عاما تحت قناع الخبرة والهندسة المالية والنقدية ومزاعم “الإصلاح الاقتصادي” المكرسة لتوسيع نطاق الخصخصة وتسليم المرافق العامة في دول العالم للشركات متعددة الجنسيات وحيث يستعمل سيف الديون والتمادي في الاستقراض لتمويل الانفاق الحكومي فمشورة صندوق النقد والبنك الدولي قامت دائما على الخصخصة وتقليص التقديمات لحساب الاحتكارات المصرفية العابرة للحدود.
التدابير التي فرضت على اليونان ضمن رزمة الإجراءات التقشفية من قبل مجموعة الدائنين الأوروبيين من الحكومات والمصارف الدولية والأوروبية خنقت مؤسسات الدولة والاقتصاد اليوناني عموما وولدت حالة متفاقمة وواسعة من البطالة وساد الركود الخطير في جميع المجالات وهكذا جاء الاستفتاء الشعبي ليعزز من قدرة حكومة اليونان على مقاومة الشروط والإملاءات التي تمثل مسا بسيادة اليونان الوطنية وتلحق مزيدا من الأذى بمستوى حياة الشعب اليوناني وباستقراره الاقتصادي والاجتماعي والمعركة مستمرة في هذا الاتجاه عبر المفاوضات المتوقعة بين حكومة تسيبراس والمجموعة الأوروبية وقد أسقط الشعب اليوناني ابتزاز التهويل بمخاطر الخروج من اليورو وترهيب الدائنين.
ثانيا تتحرك حكومة اليونان باسم إرادة شعبية عبر عنها الاستفتاء الذي جدد عمليا قوة التفويض الذي حصل عليه برنامج اليسار الجديد في الانتخابات ورضوخ الدائنين لهذه الإرادة في إطار أي اتفاق جديد يمكن ان تصل إليه المفاوضات المقبلة سيمثل سابقة تكسر طوق الإذعان الذي فرض على حكومات عديدة في اوروبا وخارجها والعدوى ستكون مرجحة الانتقال إلى دول أخرى في الاتحاد الأوروبي وفي العالم حيث تستخدم الديون المتضخمة كأداة للتدخل والإخضاع ضد الشعوب ولصالح هيمنة الاحتكارات البنكية والمالية متعددة الجنسيات التي تهيمن على الاقتصاد العالمي .
تشخص عيون الخبراء الاقتصاديين لتقصي تداعيات التحول اليوناني في دول منها أسبانيا والبرتغال وإيطاليا والعديد من دول اوروبا الشرقية والجنوبية التي تئن تحت وطاة شروط صندوق النقد والبنك الدولي وتحالف المقرضين الدوليين وثمة وجه آخر للتفاعلات المرتقبة يتعلق بالتمرد الشعبي على سياسات التقشف التي تطبقها حكومات غربية عديدة بينها فرنسا حيث طبقت سياسات تقليص التقديمات الاجتماعية تحت شعار مواجهة الركود الاقتصادي والحكومات الغربية تدافع بذلك عن هامش أرباح الشركات والاحتكارات الكبرى المهيمنة على الاقتصاد في تلك الدول وحيث يقود التقصي العملي والمعلوماتي إلى المراكز الاحتكارية المصرفية العالمية بقيادة أميركية.
ثالثا ما يعطي التمرد اليوناني صفة عالمية مهمة هي انه يتزامن مع صعود قوى عالمية عملاقة خارج مظلة الهيمنة الأميركية التي تطبق على أوروبا واقتصادها وعلى كل من صندوق النقد والبنك الدولي وهذا ما لوح به تسيبراس سابقا من خلال تطوير العلاقات مع روسيا والصين ومجموعة البريكس التي تحوز قدرات اقتصادية ومالية ضخمة تسمح لأي حكومة تفلت من قبضة الهيمنة بتنويع خياراتها وعلاقاتها ومواردها بصورة تناسب مصالحها الوطنية وتلبي احتياجاتها الفعلية بدلا من الإذعان لشروط مذلة ومؤلمة تخدم نظام شايلوك العالمي الذي يقوده البنك الدولي وصندوق النقد بالشراكة مع الأوليغارشية المالية الدولية العابرة للحدود.
اليونان هي اليوم رأس جسر لمسار جديد في اوروبا والعالم وتجربة تقدم دليلا على التحولات العالمية في زمن تداعي الهيمنة الأحادية الأميركية وحيث يخوض الشعب اليوناني وقوى اليسار الجديد تجربة تستحق المتابعة والدراسة برصد تفاعلاتها ولاستخراج دروسها ومؤشراتها التي لن تقف عند حدودها الراهنة أيا كانت احتمالات المستقبل على صعيد علاقة أثينا ببروكسل فإما صياغة جديدة للاتحاد من الداخل أو تمرد يفضي إلى دومينوالخروج والتفكك وفي الحالين تطورات وتحولات مهمة لها نتائجها العميقة في قلب أوروبا وعلى الصعيد العالمي حيث تتشكل ملامح مرحلة جديدة محورها تفكك طفرة النيوليبرالية التي دخلها العالم بأسره قبل ربع قرن بقيادة أميركية غربية.