لن تدخلوها آمنين: تركيا والاردن والتدخل في سورية د.منذر سليمان
اميركا تطلب التريث دون التخلي عن اسقاط النظام
بروفة التدخل اعدت منذ زمن
تسارعت تصريحات القادة والمسؤولين الاتراك باللجوء الى الخيار العسكري في سورية خاصة عقب زيارة الرئيس اردوغان لطهران في شهر نيسان من العام الجاري، بل التمادي في التصريح بجهوزيتها للتدخل في اليمن ايضا. وكُشف النقاب حينها عن تلقي انقرة رسالة قوية من واشنطن “تمنعها من القيام بعمل عسكري في سورية لمؤازرة قوى المعارضة.” فهل تخلت الولايات المتحدة حقيقة عن هدفها المعلن بالاطاحة بالنظام السوري، وكيف يمكن قراءة تزامن التصريحات وتصعيد الاشتباكات العسكرية لكل من تركيا والاردن – فرعي كماشة ضد السيادة السورية.
في بُعد التوقيت، يتداول اميركيا انه “يسلط الضوء على محاولة ارسال رسالة قوية لواشنطن” من الطرفين “مفادها ان الوقت قد حان للتدخل عسكريا في سوريا .. ومن الصعوبة بمكان التكهن ان كان الحديث حول انشاء مناطق عازلة سؤدي هذه المرة الى نتيجة ملموسة.”
رسميا، عارضت واشنطن اقامة مناطق آمنة واوضحت عبر الناطق الرسمي للخارجية الاميركية ان بلاده “لا تجد مبررا كافيا لمثل تلك الخطوة .. وتواجه تحديات لوجستية خطيرة” تحول دون انشاء مناطق آمنة في سورية، مستدركا انه لا تتوفر لاميركا “ادلة ثابتة” للتحركات العسكرية المقصودة. كما جرى تفسير تزامن “رسالتي الاردن وتركيا” بأن البلدين ربما يعبران عن نفاذ صبرهما من سياسة واشنطن التي لم تتبنى المخاوف التركية من تفاقم الاوضاع الأمنية بالقرب من حدودها المشتركة مع سورية.
بعبارة اخرى شديدة الوضوح اميركا تعتبر “المنطقة الآمنة” ثمرة مصلحة دولية تقررها واشنطن، وليس نتيجة لمخاوف أمنية اقليمية. نزع واشنطن الغطاء السياسي عن تركيا، في هذا الظرف الدقيق، دفع اردوغان وحزبه التصريح بأن تركيا لن تدخل سورية وحدها، على الرغم من الحركة النشطة للسياسة التركية حشد تأييد الدول الاقليمية، لا سيما الخليجية، في الآونة الاخيرة تمهيدا للتدخل. وربما اعتبر اردوغان ان حليفه السعودي تورط اكثر من اللازم في العدوان على اليمن ويخشى تكرار التجربة الحية.
ونقلت اسبوعية “نيوزويك،” في نشرتها الالكترونية “ذي ديلي بيست” عن مسؤول سابق في وزارة المالية الاميركية قوله نهاية شهر ايار الماضي ان “تركيا في مأزق الآن، اذ خلقت وحشاً (داعش) ولا تحسن التصرف معه.” يشار في هذا الصدد الى توجيه صحيفة “الاندبندنت” البريطانية اصابع الاتهام لتركيا “وتواطؤها مع داعش،” عقب عملية افراج الاخير عن 49 ديبلوماسي تركي كانوا معتقلين لديه “دون اي مقابل.”
اردوغان والنزول سريعا عن الشجرة
امام اعتراض اميركا، من ناحية، والانجازات العسكرية الميدانية للجيش العربي السوري في شمال البلاد وجنوبها على الحدود مع الاردن، سبقها تهديدات ايرانية ونصائح روسية ايضا، اضطرت انقرة الى اعلانها التراجع، بعد صراخ النفير وتهديد الجوار بالويل والثبور وعظائم الامور. ولا يجوز التقليل من عامل تغير الخريطة السياسية الداخلية في تركيا عقب الانتخابات البرلمانية الاخيرة لتعزز مواقع القادة العسكريين الاتراك والقوى والاحزاب الاخرى المعارضة للتدخل.
رئيس الوزراء التركي احمد داوود اوغلو اجرى مقابلة لمحطة تلفزة تركية، خلال اعداد التقرير، اوضح فيها انه “وفقا للوضع الراهن فان التدخل العسكري احادي الجانب ليس مطروحا .. لن ننجر ابدا الى مغامرة، فليطمئن شعبنا.”
في المحصلة، وجدت تركيا “العدالة والتنمية” نفسها امام معضلة قلقلها من تنامي انجازات القوات الكردية ضد داعش، وتخوفها من مطالبتهم اقتطاع جزء من اراضيها لدولتهم؛ واولوية واشنطن المعلنة في “محاربة داعش” وما يتطلبه من تأييد القوات الكردية المختلفة – في المرحلة الراهنة. وسارع اردوغان لارسال قوة عسكرية مؤلفة من نحو 18ألف جندي بكامل عتادهم واسلحتهم الى المناطق الجنوبية بمحاذاة القوات الكردية متوعدا بان بلاده “لن تسمح مطلقا انشاء دولة (كردية) في سورية .. سنمضي في قتالنا مهما كانت جسامة الاكلاف؛” والحيلولة دون تواصل جغرافي مباشر بين المناطق الكردية في الشمال السوري.
اردوغان وجد نفسه امام قضية شائكة لم يستطع التغلب عليها، خسارته للاغلبية البرلمانية وفشله في تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات، مما سيحرمه ايضا من تأييد واجماع داخلي لمخططاته خارج الحدود، لا سيما وان معارضة بعض قادة الجيش التركي للتدخل في سورية خرجت الى العلن.
خصم تركيا التاريخي، حزب العمال الكردستاني، لم يخفي لهجة تهديده لحكومة اردوغان محذرا في حال اقدامه على التدخل عسكريا في المناطق الكردية، تحت اي ذريعة، فان حزبه “سيحول كامل الاراضي التركية الى ساحة حرب.” تهديدات الحزب، الذي يقبع رئيسه عبد الله اوجلان في معتقلات تركيا، تؤخذ على محمل الجد، جسدها بشن هجوم على قاعدة (داغليكا) العسكرية مطلع الاسبوع مستخدما قذائف الهاون والاسلحة الرشاشة، وانخراط سلاح الجو التركي بقصف مواقع يعتقد ان مقاتلي الحزب يتحصنون داخلها.
تركيا والاردن علاقة التبعية لاميركا
بروز تركيا كلاعب اقليمي حديث النشأة، وجاء بالتزامن مع احتلال العراق، وهي التي كانت تتطلع غربا تقدم التنازل تلو الآخر دون بلوغها هدف الانضمام الى اوروبا. اميركا التقطت اللحظة وسخرت تركيا للعب دور قيادي اكبر واشمل في استراتيجيتها لاعادة تقسيم النفوذ في منطقة “الشرق الاوسط” بالتزامن مع تراجع دور الكيانات الاوروبية، منفردة ومجتمعة، في الحسابات الاميركية. واشنطن شجعت بروز وازدهار فلسفة “الاسلام المعتدل” المتصالح مع الكيان الصهيوني على حساب النظام العلماني السابق في تركيا، وهي تبتعد عن اوروبا باتجاه الشرق بدعم وتأييد اميركي واضح في اغلب الاحيان.
المعطيات المتوفرة لطبيعة المصالح المتبادلة بين الدولتين تشير بوضوح الى معارضة اميركية لنشوء دولة مستقلة للاكراد، تلبية لهواجس تركية قديمة، وعدم السماح للاكراد بتخطي الحواجز الموضوعة والخروج عن السيطرة. الازدهار الاقتصادي لتركيا بلغ مرحلة متقدمة منذ احتلال العراق، وانعش احلامها لمنافسة اوروبا على الاسواق الاقليمية، والخليجية تحديدا، ولم يكن الأمر بعيدا عن المرسوم اميركيا للمنطقة، سياسيا واقتصاديا، وتوجهها للمراهنة على جماعات الاخوان المسلمين “تحت سيطرة انقرة” ظاهريا.
وانطلقت محاولات استغلال مدروسة للاحتجاجات الشعبية للاطاحة بالنظم والدول المعترضة على النفوذ الاميركي، وحتى المؤيدة له كما في تونس، وبرز عنصر الاسلام السياسي كعامل مفصلي يعول عليه في “الثورات الملونة،” رغم ادراك اميركا والقوى الاخرى بعدم اهلية التنظيم المتدين تبوأ مفاصل الحكم كي تبقي المفاتيح الاساسية الاقليمية ضمن سيطرتها التامة. وتنفست الصعداء لاصطفاف نظام الاخوان في مصر ضد سورية وابتعاده عن ايران، وتمت تغطيته بعباءة دعم تركية ايضا.
جدير بالملاحظة ان الولايات المتحدة رفضت تصنيف الاخوان جماعة ارهابية حتى بعد انكشاف العلاقة الوثيقة التي تربطهم بالتنظيمات المتشددة والارهابية، القاعدة واخواتها.
انشيء الاردن كمنطقة عازلة بين “اسرائيل” والعمق العربي في الهلال الخصيب، سورية والعراق، واسند له وظائف متعددة للوقوف بوجه القومية العربية وحماية أمن “اسرائيل،” ومهام فرعية اخرى تتعلق بخدمة المصالح الاميركية في المنطقة: الانضمام لتحالف واشنطن ضد داعش.
تدخل النظام الاردني في المأساة السورية يعود الى ازمنة غابرة منذ تشكيل الاحلاف الاقليمية الغربية للوقوف بوجه المد الوطني والقومي، وتجدده تحت عباءة الاستراتيجية الاميركية والغربية لاسقاط الدولة والنظام السوري بشكل مباشر منذ بدء عام 2011.
سخر الاردن اراضيه واجوائه في خدمة المشروع الغربي لتفتيت الدولة السورية، ولم يعد ينفي دور غرفة العمليات المشتركة، الموك، على اراضيه لادارة معارك التنظيمات المسلحة ضد سورية والتي تضم قيادات عسكرية رفيعة من الولايات المتحدة والسعودية و”اسرائيل.” الدعم الاميركي والمالي السعودي حفزه لاعداد نفسه وراثة اراضٍ سورية يضمها لكيانه عبر هجوم متزامن من اراضيه نحو الجنوب السوري وتهديد تركي في الشمال لمشاغلة الجيش العربي السوري.
قرار التدخل والعبث باستقرار سورية لم يكن يوما رهن حسابات فردية لكل من تركيا والاردن، ودول الخليج الممولة والداعمة، بل القرار بيد اميركا وكل له دور خاص به. التطورات العالمية في الفترة الاخيرة، من اوكرانيا لاوروبا وازمتها الاقتصادية والعدوان السعودي المتعثر ضد اليمن، فضلا عن فشل ادوات العدوان في المعارضة السورية، شكلت عاملا ضاغطا على صاحب القرار للتريث في المرحلة الحالية دون التخلي عن هدف التدخل والاطاحة بالنظام السوري.
يجدر التنبيه الى التحولات الميدانية التي طرأت على العقيدة العسكرية الاميركية. بعد فشل حروبها المكلفة في افغانستان والعراق، وانخراط قواتها المسلحة بشكل مباشر، تعدلت العقيدة العسكرية في عهد الرئيس اوباما لاستمرار القتال ولكن بادوات تنفيذ محلية، والتي ستتحمل مسؤولية الهزيمة وحدها امام العالم، كما هو حاصل للمملكة السعودية الغارقة في اوحال اليمن وتلكؤ القرار الاميركي بتوفير الغطاء السياسي لانسحابها. وهذا يفسر الى حد بعيد تراجع الانخراط العسكري الاميركي المباشر في سورية، على الرغم من اصرار انصار الحرب وممثليه في الكونغرس بأهمية ارسال قوات مسلحة اميركية للقتال في كل من سورية والعراق.
التدخل الاميركي في المنطقة يتم عبر وحدات من القوات العسكرية الخاصة، لمهام محددة، وتاييد انخراط مرتزقة الشركات الأمنية الاميركية في العمليات القتالية مما يوفر لها عنصر التنصل من مسؤولية التدخل.
مستقبل المناطق الآمنة
انشاء مناطق نفوذ آمنة، داخل الحدود السورية، مهمة محفوفة بالمخاطر لا سيما حاجتها الدائمة لتوفير الحماية النارية لها وما ينطوي عليه من مجازفات قد تخرج عن نطاق السيطرة. الامر الذي تحذر منه اميركا مطلب تركيا الثابت بانشاء منطقة حظر على الطيران السوري.
الأمر بالنسبة للاردن يختلف بعض الشيء بحكم تداخل العامل “الاسرائيلي،” من ناحية، وامتداد داعش واخواتها بالقرب من حدوده المشتركة مع العراق وسورية.
الحسابات التركية الداخلية محكومة بسقف السيطرة على اوضاع الاكراد والحيلولة دون بروز كيان ولو شبه مستقل، على الرغم من استفادتها التعامل تجاريا وعسكريا مع اقليم كردستان العراق لادامة الضغط على بغداد. الانتخابات البرلمانية الاخيرة قلبت حسابات الساسة الاتراك التي اسفرت عن دخول نحو 80 ممثل عن الاكراد البرلمان التركي، وما رافقه من خسارة العدالة والتنمية نسبة الاغلبية المريحة السابقة واضطراره الى تشكيل اما حكومة بالتحالف مع احزاب اخرى او الذهاب لانتخابات مبكرة، كما يهدد اردوغان، وهو خيار لا يخلو من المغامرة.
تنفيذ اردوغان لتهديده بالتدخل العسكري المباشر في سورية لا يؤخذ على محمل الجد نظرا لجملة اعتبارات، ابرزها سياسيا عدم توفر الغطاء الدولي، وميدانيا اضطراره لخوض حرب استنزاف مع القوات الكردية بتشكيلاتها لمختلفة، الخصم اللدود للمؤسسة التركية الحاكمة وتنظيم داعش على السواء. الحديث عن “فوز” تركيا ميدانيا، في حال اقدامها على تلك المغامرة، يغيب عن الخطاب السياسي والاعلامي.
خصوم الرئيس اوباما من انصار الحرب، يتزعمهم السيناتور جون ماكين، يقفون الى جانب تركيا وتشجيعها على التدخل العسكري. القابض على القرار السياسي في البيت الابيض لم يبدِ حماسا لقرار يعتبره يشكل مغامرة غير مدروسة تنعكس سلبا على الاستراتيجية والمصالح الاميركية في المنطقة، وتضاعف حجم الهوة في الجهود المشتركة لالحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الاسلامية.