تحية الوداع بقلم بنت الأرض
في الثامن والعشرين من حزيران توافدت حشودٌ غفيرةٌ من رسميين وعسكريين ومدنيين في موسكو بعضهم في البذات السوداء وبعضهم الآخر في بذاتهم الرسمية العسكرية أو المدنية، لإلقاء نظرة وتحية الوداع للسيد يفغيني بريماكوف الذي شغل منصب رئيس وزراء ووزير خارجية روسيا الإتحادية، ولكنه عُرف في العالم كوزير خارجية. ذلك لأنه كانت له مواقف واضحة ومحددة وشريفة سواء مما عصف ببلاده في أواخر التسعينات من تفكك للإتحاد السوفياتي أو مما عصف في بلداننا من حرب على العراق نعلم اليوم أنها كانت مقدمةً لإشعال فتيل حروب في المنطقة وتفتيت البلدان العربية إلى شيع وأقاليم وطوائف. وقد تحول جوار الجثمان المسّجى للسيد بريماكوف إلى حقل من الزهور الحمراء والبيضاء، بينما كُشف عن وجهه وجلست عائلته أمامه تذرف الدموع حزناً على فراقه. لقد كان كثير ممن توافدوا إلى المكان لم يعاصروه كمسؤوول رسمي ولكنهم على إطلاع على تاريخه ومواقفه وخدماته الجليلة لبلاده وللقضايا المحقّة والعادلة في العالم، وخاصة قضية الحقوق العربية والقضية الفلسطينية. فمن ينسى مثلاً أن موكب بريماكوف كان آخر موكب يغادر بغداد قبل أن يبدأ القصف الأميركي لها في عام 2003 وقد ظن الكثيرون أن موكبه قد ضُرب وهو يغادر العراق متوجهاً نحو سورية بعد أن بذل قصارى جهده لإقناع صدام حسين بتغيير موقفه ولكن دون جدوى .
وفي زحمة دخول المئات وخروج المئات في الوقت ذاته من الناس الذين توافدوا لإلقاء تحية الوداع، ترجّل مسنٌ من سيارةٍ يسانده شخصان على يمينه وعلى شماله، يتلمس الخطى ببطئ نحو الجثمان. لم ينظر إليه أحد ولم يستوفقه أحد، ولم يُلق التحية عليه أحد، وقد تغيّر شكله وإزداد وزنه إلا أن علامة كبيرة في أعلى جبينه ظلّت هي ذاتها تدلّ عليه. لقد كان ذلك الشخص هو ميخائيل غورباتشوف صاحب نظرية البيروسترويكا والغلاسنوست والذي لعب دوراً في تفكيك الإتحاد السوفياتي والذي خطب في الكثير من أعماله ودّ الغرب وصداقتهم، مقتنعاً أو غير مقتنع، بأن ما يسعى من أجله يصبّ أيضاً في خدمة بلاده.
وفي قفزة من خيال، اعتبرت أن تحية الوداع هذه كانت للرجلين بريماكوف وغورباتشوف، حيث حظي الرجل الأول بحسرة وحزن أبناء شعبه وكثير من أبناء العالم أيضاً مقدّرين مواقفه الشامخة والعادلة، بينما لم يحظ الرجل الثاني حتى بنظرةٍ أو سلامٍ من أحد رغب في استيقافه أو إلقاء التحية عليه. ومن العبث لأحد أن يظنّ أنه قادر على تغيير الحكم العادل للناس والتاريخ مهما كان ذكاؤه ومهارة أسلوبه. فالتاريخ يطلق أحكامه على البشر دون محاباة أو تملّقٍ أو تودّدٍ لأحد والحسّ الجماهيري الصافي غالباً ما يكون في انسجامٍ مطلقٍ مع حكم التاريخ.
هل فكّر أحد وهو في قمّة عنفوانه أنه في لحظة ما سيفقد السيطرة على كل أحد وكل شئ ويُلقى مسجّىً أو يدفن تحت التراب وحينئذ ستكون الكلمة للآخرين أن يطلقوا أحكامهم على أفعاله وأقواله ومواقفه. وهل يتذكر أحد أن مسار هذه الحياة الدنيا هو اختبار للناس في أعمالهم وأن لحظة إلقاء نظرة وتحية الوداع هي لحظة الحقيقة التي تُنبّأ بنتائج الإمتحان الذي خاضه الشخص المعنيُ في حياته؟ لقد كان يفغيني بريماكوف رجل موقف ورجلاً صادقاً قادراً على قول كلمة الحق واتخاذِ موقفٍ جرئٍ مهما بلغ الثمن. وكان موقف شعبه وحكومته والرئيس بوتين والعالم بأسره مقدّراً ومحترماً لموقف هذا الرجل ومسيرة حياته المشرّفة. حين كنت صغيرة في قريتنا أسمع والدتي كلما مرّت جنازة من قرب دارنا تقول: “هنيئاً لصاحب الذكر الحميد”. كم كانت محقّة في قولها هذا.
انتهى