أزمة لبنان الكبرى
غالب قنديل
مع كل اهتزاز حكومي او سياسي او امني يستشعر اللبنانيون خطرا جديا يفاقم مخاوفهم منه استمرار التهديد الإرهابي ودوام الخطر الصهيوني وفيما يسعى بعض السياسيين لطمأنتهم بكلام مكرر عن ضمانات خارجية فيحشدون القرائن التي بحوزتهم تصريحا او تسريبا من كواليس المجالس والسفارات تتجه الأنظار إلى مشهدية الاتصالات واللقاءات وتغوص في التفاصيل عن جداول الأعمال ونصاب الجلسات المتباعدة بينما يسود الإحساس بابتعاد ساعة الحل الفعلي لأزمة تبدو مديدة ومستعصية في بلد لا يحتل الأولوية في اهتمام الخارج كما تشير الوقائع.
أولا بسذاجة ظاهرة تقدم وسائل الإعلام إلى الرأي العام اللبناني صورة مسطحة لتعقيدات الأزمة السياسية والدستورية الكبرى التي يجتازها لبنان ويتم الاستغراق في جدالات إعلامية مطولة عن جداول اعمال جلسات نيابية او حكومية وعن انتخابات الرئاسة المؤجلة بوصفها معضلة اختيار الاسم الممكن لرئيس يتفق عليه الأطراف الفاعلون في الداخل والخارج بينما تبقى الحقيقة العنيدة والطاغية والمسكوت عنها هي ان لبنان يجتاز ازمة تاريخية كبرى .
هي أزمة لا تختلف عن الأزمة التي انفجرت عام 1958 بل تفوقها صعوبة وتعقيدا ولا عن تلك التي اورثت حربا اهلية مديدة عام 1975 وانتهت إلى اتفاق الطائف الذي يترنح النظام المنسوب إليه كما ترنح قبله النظام الذي كان منسوبا لميثاق 43 وفي الحالين شكوى من سوء التطبيق لا تطمس حاجة ملحة للتغيير السياسي تتزاوج على نحو أشد وأقوى هذه المرة بأزمة عميقة وشاملة اقتصاديا واجتماعيا تستدعي معالجتها جذريا إطاحة بالعديد من مسلمات العقلية التقليدية اللبنانية في السياسة كما في الاقتصاد كذلك!.
ثانيا الاستعصاء الذي يطبق على استحقاق الرئاسة الأولى هو تعبير عن مأزق وطني خطير ومن الواضح انه يعكس عجز نظام الطائف وعدم قدرته على إنتاج آليات حكم متجدد ومستمر عبر تداول طبيعي وهاديء للسلطة السياسية تماما كما بلغ من قبله نظام 43 المأزق نفسه مع فارق جوهري هو ان الاستعصاء الراهن لم يتفجر في صيغة حرب اهلية بفضل المعادلة الشهيرة من سنوات : من يستطيع لا يريد ومن يرد لايستطيع وهي الدلالة على نضج قيادات وطنية عملت على احتواء التشنجات وحصرت التعبيرات الخلافية في النطاق السياسي وبلورت آليات لاحتواء التوترات.
الكلام الذي يجتره البعض عن ضمانات دولية هو التعبير عن فعالية ما تمثل المقاومة من وزن وقوة في الحياة الوطنية وفي التوازن الإقليمي فالغرب تهمه مصالحه ومن بين اولوياته المحسومة حماية نفوذه في لبنان والحد من مخاطر ارتداد الإرهاب إلى الغرب ومن هذين الهدفين تبلور إلزام اتباع الغرب بالمساكنة مع المقاومة وبالكف عن ارتكاب الحماقات التي تقود إلى قلب الطاولة وهذا ما يسمى في اللعبة السياسية بضوابط الاستقرار الأميركية او بقواعد منع الانفجار منذ تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام بمداخلة اميركية معلنة أسقطت الفيتوات السعودية ويسرت التفاهم على عبارة المقاومة في البيان الوزاري وهي تركز جهودها على ثلاثية دعم الجيش والاستقرار النقدي واستمرارية الحكومة بالحد الأدنى الممكن في ظل الشغور الرئاسي.
ثالثا أبعد من جلسة حكومية ومن تسويق اسماء مرشحي الرئاسة والبيانات الإحصائية يبدو الطريق إلى الحل محكوما بتبلور تفاهم وطني على تغييرات دستورية وسياسية تنطلق من قانون جديد للانتخاب على أساس النسبية ومن اجندة تغييرات اقتصادية اجتماعية تنهي معالم الليبرالية المتوحشة التي أغرقت البلاد بالديون وبالريعية منذ انطلاق المشروع الإعماري بعد الطائف وحيث تتفاقم النتائج الكارثية بالمزيد من خراب قطاعات الإنتاج وهجرة الشباب وباشتداد الضغوط الخطرة التي تولدها مصالح الطغمة المالية المتحكمة بمقادير البلاد عن بكرة أبيها .
على الصعيد السياسي والاجتماعي يحتاج لبنان إلى تغييرات شاملة وإلى قوى تغيير حقيقية بمستوى ما تمثله المقاومة في مجابهة التهديدات الصهيونية والتكفيرية كقوة هجومية مبادرة وهنا المأزق الجدي في معركة الوعي مع استمرار خراب النخب المستقطبة في ذيول القوى التقليدية والرجعية والمستغرقة في تلاوين الخطاب الطائفي والمستخدمة على لوائح التجنيد في السفارات الغربية والخليجية…
بكلمة لن يخرج لبنان من مأزقه الراهن إلا بانتفاضة الوعي وبانبثاق طليعة وطنية جديدة قادرة على الارتقاء في نظرتها وكفاحها إلى مستوى ما انجزته المقاومة حتى اليوم في الدفاع عن الوطن ومالم تقم دولة وطنية جديدة في مستوى هذه الحقيقة لن يشهد لبنان الاستقرار الذي ينشده الجميع في أقوالهم على الأقل .