سورية لم تُغادر العُروبة حتى تعود إلى جامعتها:عبد الباري عطوان
تكلّل الصّمود السوري المُستمر مُنذ 12 عامًا بانتصارٍ تاريخيٍّ آخَر اليوم الأحد تَمثّل بقرار وزراء الخارجيّة العرب الذي صدر بالإجماع بعودتها إلى الجامعة العربيّة وجميع مُؤسّساتها دون شُروط، الأمر الذي سيفتح الباب لمُشاركة الرئيس بشار الأسد في قمّة الرياض في الـ 19 من شهر أيّار (مايو) الحالي.
إنها هزيمةٌ مدويّةٌ للولايات المتحدة الأمريكيّة التي عارضت بقوّةٍ هذه العودة السوريّة، وحرّضت بعض حُلفائها بعرقلتها بكُلّ الطّرق والوسائل، ولكن عدم تجاوب أيّ دولة عربيّة مع هذا التّحريض، يعكس انحِسارًا مُتزايدًا لنُفوذ الولايات المتحدة الأمريكيّة في مِنطقة الشّرق الأوسط، ولا أسَف عليها وعلى نُفوذها المسموم.
سورية تعاملت بلامُبالاةٍ مع مسألةِ هذه العودة إلى الجامعة وتطبيقًا للمثل الذي يقول (الحجر في مطرحه قنطار)، ولم تَسْعَ مُطلقًا لها، وتعاطت مع الدّول التي أيّدَت، بل ورسّخت إبعادها، وهي الدّولة المُؤسّسة للجامعة، بحالةٍ من البُرود وتجنّبت الدّخول في أيّ معاركٍ إعلاميّة في ترفّعٍ غير مألوف في إرثِ الخِلافات العربيّة.
سورية خرجت، أو اُُخرجت، من مؤسّسة القمّة العربيّة أثناء انعقاد قمّة الدوحة عام 2013، وأُعطي مِقعَدها للمُعارضة السوريّة، عادت إليها قبيل انعقاد قمّة الرياض بعد عشرة أيّام، والفضْل في ذلك يعود للتّغيير الاستراتيجي الذي اتّبعته القِيادة السعوديّة، وتجسّد في الاتّفاق السعودي الإيراني، والتقارب مع سورية على الصُّعُد كافّة.
لا نعرف ما إذا كان الرئيس السوري بشار الأسد سيُشارك في قمّة السعوديّة العربيّة القادمة أمْ لا، وفي حالِ قراره المُشاركة سيكون نجم هذه القمّة دُونَ مُنازع، حيث سيسرق الأضواء من الجميع، وستنشغل وسائل الإعلام طِوال الوقت برصد تحرّكاته ومُصافحاته ولِقاءاته في السِّرّ والعلن.
سورية انتصرت، وعودتها إلى الجامعة العربيّة ما كانَ لها أن تتم لولا صُمود جيشها العربيّ في ميادين القِتال على مدى 12 عامًا دُونَ انقِطاع، والتفاف مُعظم أبناء الشعب السوري خلف قِيادته، وتحمّل الكثير من الصّعاب والحِصارات لإفشال المُؤامرة الأمريكيّة والإسرائيليّة لتفتيتِ بلاده وتقسيمها، وتحويلها إلى دولةٍ فاشلة.
النظام الرسمي العربي الذي ضخّ مِئات المِليارات من الدّولارات لتركيع سورية، وإسقاط نظامها، رفع الرّايات البيضاء، واستسلم للفشَل، وبات يسعى للصّفح والغُفران.
نحن أمام مرحلةِ تغييرٍ شاملةٍ تسود العالم حاليًّا، وتتمثّل أبرز معالمها في تراجع النفوذ الأمريكي الأوروبي المُتسارع، ولمصلحة نظام عالمي جديد مُتعدّد الأقطاب بزعامة المحور الصيني الروسي، ومن الطّبيعي أن لا تظل المِنطقة العربيّة في منأى عن هذه المُتغيّرات.
قيادة المملكة العربيّة السعوديّة دعت للتحرّك الذي أعادَ سورية إلى الجامعة العربيّة، وحقّق جميع أهدافه، أعادَ رسم خريطة جديدة للمِنطقة، أبرز عناوينها إحياء التحالف الرباعي المشرقي الذي يضم مِصر والسعوديّة والعِراق وسورية، وتحقيق المُصالحة بين المذهبين السنّي والشّيعي، وتوثيق العلاقات مع إيران.
دولة الاحتِلال الإسرائيلي ستكون الخاسِر الأكبر من هذه الصّحوة العربيّة المدروسة، والنتائج التي يُمكن أن تترتّب عليها وأبرزها وأدَ الفتنة الطائفيّة، والالتِفاف مجددًا حول القضيّة الفِلسطينيّة، وإجهاض جميع اتّفاقات التّطبيع القديم منها والجديد.
مُؤتمر القمّة العربي المُقبل قد يكون نُقطة انطلاق للزّعامة السعوديّة للمِنطقة، خاصّةً بعد تحريرها من التبعيّة الأمريكيّة، وإعطاء الأولويّة للمصالح، وعلى أرضيّة بناء قاعدة اقتصاديّة وماليّة صلبة.
سورية التي تَقود ولا تُقاد، لن تكتفي بهذه العودة الرمزيّة إلى جامعةٍ عربيّةٍ مُنهارةٍ فاقدة الدّسم، وارتكبت آثامًا وخطايا خيانيّة مُخجلة بتواطُؤها مع المشروع الأمريكيّ التقسيميّ، عندما أيّدت غزو ليبيا، وتدمير سورية والعِراق، وباركت بشَكلٍ غير مُباشر العشريّة السّوداء في الجزائر.
التّصفيق والتّرحيب بعودة سورية إلى الجامعة العربيّة لا يكفي وحده، ولا بُدّ أن تتبعه خطواتٍ جديّة لإعادة تفعيلها، وإصلاحها، وإعادة توجيه بُوصلتها نحو القضيّة العربيّة المركزيّة الأولى، وإعادة إعمار سورية، وتخفيف مُعاناة شعبها، كتكفيرٍ للذّنوب، والاعتذار العمليّ عن الجريمة التي جرى ارتكابها بحقّها وشعبها، ولعلّ قمّة الرياض المُقبلة ستكون انطلاقةً جديّةً في هذا المِضمار.
تخيّلوا لو أن مِئات المِليارات التي أنفقها بعض العرب على تدمير سورية، بإملاءاتٍ أمريكيّة، جرى توظيفها في تنمية البلاد العربيّة، الغنيّة والفقيرة معًا، وإيجاد وظائف لعشَرات الملايين من العاطلين، وبناء الجامعات والمدارس الحديثة، وتمويل مشاريع التنمية.
خِتامًا نقول إن سورية التي كظمت الغيْظ لأكثر من 12 عامًا، وتحمّلت طعنات الغدر المسمومة، ولم تتخلّ عن قيمها وعقيدتها، كانت أكبر من العِتاب، و”المُعايرة”، وستُعيد بعودتها العُروبة إلى جامعةٍ تخلّت عنها، وهُنا تظهر معادن الدّول.. وأهلًا بعودة العرب إلى سورية.