بقلم ناصر قنديل

آخر اختبارات «طائف سوري»

nasser

ناصر قنديل

– منذ أن جاءت الأساطيل الأميركية إلى ساحل المتوسط بعد إعلان الرئيس الأميركي الحرب الواقعة لا محالة ضدّ سورية التي «تخطى رئيسها كل الخطوط الحمراء»، ورحلت من دون أن تخوض حرباً، سقط مشروع إسقاط سورية، كما سقطت نسختها السابقة عندما سقطت الطائرة التركية بنيران الدفاعات الجوية السورية ولم تذهب تركيا إلى الحرب، وصارت التسوية خياراً يصنعه التفاوض، لكنها تسوية تتحرك سقوفها الأميركية بزجّ القدرات واختبار الخيارات من الأعلى إلى الأدنى.

– التسوية التي يريدها الأميركيون ومعهم كلّ حلفائهم هي تلك التي تعيد إنتاج الدولة في سورية على أساس محاصصة الطوائف، لأنّ مثل هذه الدولة دولة نزاعات دائمة لا تقوم لها قائمة، ولن تكون دولة مواجهة مع «إسرائيل»، وستتكفل بضرب ميزان الردع من قلب القلعة التي تمثلها سورية في خط المقاومة، وهي تسوية تمنح حصصاً ونفوذاً للدول بحسب الهويات الطائفية، فتقول لروسيا لك إدارة دور المسيحيين ولإيران حصتك دور الشيعة والعلويين، وللسعودية وتركيا ومصر وقطر بإمكانكم تقاسم مساحة تمثيل الغالبية من الطائفة السنية، وتحتفظ لـ«إسرائيل» بالحصة الدرزية، وتخوض التفاوض بين صيغتين لتوزع السلطات، واحدة تمنح الرئاسة للأقلية التي يمثلها العلويون إذا استعصى استبدال أو إسقاط الرئيس بشار الأسد، لكن رئاسة على الطريقة اللبنانية بلا صلاحيات، وتنتقل السلطة لرئاسة الحكومة التي تناط بالطائفة السنية ليتداولها ممثلون للسعودية وتركيا، على طريقة سعد الحريري ونجيب ميقاتي في لبنان، وإذا بدا أنّ التخلص من الرئيس الأسد متيسّر فالإبقاء على النظام الرئاسي مع تحديد طائفة الرئيس كما قال كيري من الدوحة قبل سنتين، آن الأوان لتتنازل الأقلية عن الحكم لطائفة الغالبية، والقصد ليس حقوق طائفة بل ما يتيح المجيء بدمية للسعودية أو تركيا.

– هذا التصوّر لم يتمّ إخفاؤه أميركياً، فهم يجاهرون به، منذ اللقاء الأول الذي ضمّ جون كيري وزير خارجية أميركا مع سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا بعد نهاية الأيام المئة الأولى من ولاية الرئيس باراك أوباما الثانية، والإعلان عن صرف النظر عن خيار الحرب المباشرة الذي كانت قد وقّعته كمشروع قرار وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ومعها كلّ من وزير الدفاع ليون بانيتا ورئيس الاستخبارات ديفيد بترايوس، فقد أعلن كيري بعد لقائه لافروف بشهرين تقريباً نهاية حزيران 2013 من الدوحة بعد اجتماع ضمّه ووزراء حلف الحرب على سورية تأييد المجتمعين للحلّ السياسي في سورية، واضعاً شرطاً رئيسياً هو تعديل التوازن العسكري، ومضموناً للحلّ هو أن يتمّ توزيع السلطات على الطوائف في سورية، بالتالي إعلان نهاية الدولة المدنية.

– في كلّ مرة كانت تجري مقاربة فكرة التسوية في سورية كان الطرح الأميركي يبدو مسكوناً بمفردات الطائف اللبناني، من دون أن يغيب التكرار في الكلام علناً عن طائف سوري تيمّناً بالنموذج الذي أبقى لبنان في حال حرب أهلية دائمة، فقال الأميركيون وردّد حلفاؤهم مراراً أنّ المطلوب إعادة هيكلة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بعد ضمّ «المنشقين» ودمج الميليشيات فيها، وكلّ هذه المنوعات جزء من مفهوم للتسوية يفقد سورية دولتها المدنية والمركزية ويجعل الدولة مجرد هيكل لدويلات حاكمة على أرض الواقع قوامها طائفيات مسلحة على الطريقتين اللبنانية والعراقية.

– الطريق إلى هذا الحلّ هو جعل الطائفيات مستحكمة في الجغرافيا بميليشياتها المسلحة من جهة، وتعديل موازين القوى بإضعاف الجيش السوري وإضعاف حليفه الأبرز حزب الله من جهة أخرى، وهذا كله كلام صريح ومباشر للمسؤولين الأميركيين، أما الآلية فهي إثارة المخاوف الطائفية والردّ عليها بالحمايات والضمانات والتسلح، والزجّ بـ»جبهة النصرة» كمكوّن في العملية السياسية، واستخدامها مع «داعش» لإضعاف الدولة والجيش في سورية واستنزاف حزب الله، وهذا كله يفسّر المشهد الذي نراه تباعاً منذ سنتين في محاولات لها هذه الوجهة الواحدة، فانتصار الأكراد على «داعش» يصير مقبولاً إذا أنتج مزيداً من النزوع الكردي نحو الانسلاخ، ومجازر «داعش» و«النصرة» بحق الدروز مفيدة طالما تأخذهم نحو الاستنجاد بـ»إسرائيل» أو التفكير في الانسلاخ والحياد، و«داعش» إذا بلغ تدمر وصولاً إلى القلمون مفيد طالما يهزّ هيبة الجيش السوري كتعبير عن فكرة الدولة الواحدة والجيش القوي، وطالما يستنزف حزب الله ويمكن له أن يخرج تأثيره من المعادلة السورية.

– في المقابل كانت المواجهة من جانب الدولة السورية والمقاومة تقوم على ثنائية تعزيز فكرة الدولة السورية وتأكيد الثقة بجيشها، وصدّ مشاريع الانقلاب في موازين القوى في كلّ ميدان يعبّر عن مسار قابل للتحوّل إلى عامل إخلال بالتوازنات الكبرى، هذا ما حصل بعد عملية القنيطرة وهذا ما يحصل في حرب القلمون، وهذا ما ترتب على كيفية إدارة الردّ على المجازر المرتكبة بحق المسيحيين والعلويين من قبل لتأكيد أنّ الردّ يكون عبر حماية واحتضان الدولة والجيش، وهذا ما يجري اليوم أمام محاولة إثارة الذعر الطائفي لدى الدروز لدفعهم إلى الحضن «الإسرائيلي» برافعة جنبلاطية تأخذهم إلى الحياد بعنوان أردني مموّه ومحمي أميركياً.

– ما يجري في القلمون والسويداء سيرسم مستقبل الرهان الأميركي على نظرية الطائف السوري، وفرضية التقاسم الطائفي للسلطات في أي تسوية قادمة، والفشل أو النجاح سيقرّران الخطوة التالية، إلى المزيد من الرهانات أم إلى التسليم بحقيقة الدولة السورية المدنية المركزية القوية.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى