أربعون ربيعاً في ربيع فكريّ مستمر
ناصر قنديل
– كان شديد البلاغة ما ورد في البيان الافتتاحيّ في احتفالات الأربعين ربيعاً، الذي أدلى به مسؤول وحدة العلاقات الإعلامية في حزب الله الحاج محمد عفيف، لجهة دقة الوصف لما قبل وخلال وما بعد، انطلاق حزب المقاومة الأول، حزب الله، لموازين القوى، للإرادة، للنمو، للانقسامات، للتضحيات، للانتصارات، لروح التلاقي والحوار، وسياسة مد اليد، للتفكير بالمتغيّرات، لمستقبل المقاومة وحجم مسؤوليّاتها المتعاظم، ومقدراتها الأشد عظمة، وقادتها الشهداء والأحياء، وقائدها العبقريّ الفذ السيد حسن نصرالله، ولا حاجة لاستعراض عناصر إضافيّة لتظهير معنى أننا نحتفل بولادة أنبل وأشرف ظاهرة عرفها العرب والمسلمون منذ قرون، وربما منذ غزوات الفرنجة على بلادنا، طالما أن معيار التفوق هو حجم الإنجاز، وليس إخلاص النيات فقط، إذا يكفي القول إنه ببركة هذه المقاومة وحكمة وتدبّر حزبها، وشجاعة وحكمة وتنسك قيادتها، تبدو القدس أقرب لكل الصادقين الذين حلموا يوماً بعودتها، على اختلاف مللهم وأحزابهم وجنسياتهم، فيما يبدو للسبب ذاته، أن كيان الاحتلال بانتظار مستقبل قاتم، كما تراه عيون محبيه، والذين آمنوا يوماً بأنه أبديّ البقاء في فلسطين، وباتوا يتساءلون اليوم عن قدرته على تجاوز الثمانين من عمره التي تحلّ بعد سنوات قليلة.
– الذي يجب أن يقال وأن يضاف إلى ما قيل، هو أن المقاومة وحزبها، بعد النجاح في تحويل الفكرة الثورية الخلاقة إلى مصدر قوة، أثبتوا أهليتهم لدخول نادي الحركات الثورية التاريخيّة التي حولت القيمة المضافة إلى فائض قوة، لكنهم عندما نجحوا بإعادة تحويل فائض القوة الى قيمة مضافة، سجّلوا تميّزهم الاستثنائيّ بين الحركات الثورية التاريخية، وحجزوا مكانتهم المتفردة على عرش التفوّق، حيث فائض القوة سريع التحلل ما لم يتحوّل بسرعة الى قيمة مضافة، اي الى تشبيك سياسي وتفوق أخلاقي، فكان الإبهار الذي طبع التجربة الفاصلة لكل انتصارات الحركات الثورية في التاريخ، من انتصار الثورة الفيتنامية إلى انتصار الثورة الإسلامية في إيران، يتجدّد بصورة إبهار متكرر في انتصارات المقاومة وحزبها، من التحرير عام 2000 الى انتصار عام 2006 الى الانتصارات المتدحرجة في سورية، وصولا الى انتصار الجرود على تشكيلات عقائدية إرهابية حشدت للمقاومة أضعاف عددها، والقيمة المضافة كانت دائماً تفوقاً أخلاقياً يرافق مسيرة المقاومة وحزبها.
– في التفوّق الأخلاقي كانت الأربعين ربيعاً مليئة بالمحطات، وكانت المقاومة تتنفس تفوقاً أخلاقياً في كل محطة. ففي التحرير كان مشهد التسامح مع العملاء، والحرص على عدم وقوع أي حادثة أمنية، وطي الصفحة السوداء بأيد بيضاء. وفي عام 2006 كان التفوق الأخلاقي برفض تسييل فائض القوة المحسوم والظاهر بعد الانتصار في معادلات الداخل لفرض مكاسب حزبية أو طائفية. وفي حرب الجرود، رغم الجحود، وضعت المقاومة والحزب كل الدماء كي يكون لبنان أقوى وأشدّ منعة واستقراراً، وفي محنة سرقة وتهديد ثروات لبنان في البحر وضعت المقاومة صدرها وأكتافها لتحمي وتحفظ الثروات، وتمنح الدولة مصدر قوة لا وجود لسواه لتحقيق التوازن اللازم لمنع ضياع الحقوق.
– المشهد الأشد تعقيداً الذي يظهر حجم الإنجاز وعظمته في الأربعين ربيعاً، هو ما نقرأه في عيون ونبرات أصوات المئات والألوف من رموز ونخب وقادة، من كل جنسيات العرب، ودول العالم، ومن مشارب فكرية متعددة يسارية وقوميّة وعلمانية وإسلامية وليبرالية، عندما يتحدثون عن سماحة السيد حسن نصرالله، صاحب العمامة، والمؤمن بعقيدته حتى العظم، يذكر بولائه لها في كل مناسبة، وتحسبهم أتباعاً له، يعتبرونه قائدهم، ولوهلة يعتبرونه هو اليساري او القومي أو العلماني أو الليبرالي، وهم الإسلاميون، فكيف حدث ذلك وزالت أسوار بدا لعقود طوال أنها أساس الفرز والضم والفك والتركيب في كل ساحة للسياسة، وقد عجزت تجارب عملاقة لعظيم مثل جمال عبد الناصر عن كسر حدة الانقسام حولها، وعندما يصبح الأمر عاطفياً، يتخطى مجرد نجاح المقاومة بجعل قضية الصراع مع الكيان عابرة للعقائد وحسب، بل يصبح الأمر في ذوبان الحزب وقيادته وقائده في هذه القضية، لدرجة لا تستطيع أن تكون مؤمناً بالعداء لكيان الاحتلال بصدق، ولا تشهد أن السيد نصرالله قائد المسيرة التي تنتمي إليها.
– أربعون ربيعاً للأخلاق، أربعون ربيعاً للتواضع، أربعون ربيعاً للتسامح، لكن الأربعين، ربيع القوة والنصر والاقتدار، والعزة والكرامة، لا تعرف الشيخوخة لأن الشيخوخة للقضايا، وكل حزب مهما كان فتياً وضع تسلّم الحكم هدفه الأسمى بدأ يشيخ من لحظة الوصول، أما وأن المقاومة وحزبها منذوران لتحرير القدس فلن يشيخا قبل هذا التحرير، وعندها يستحق الأمر الشيخوخة والتقاعد، فقد استحق العدل وحصحص الحق.