رسالة إلى أعضاء المؤتمر القومي العربي
ناصر قنديل
– تنعقد دورة جديدة للمؤتمر القومي العربي في بيروت وحال الأمة ليست بأفضل حال، فكيفما تطلعنا حولنا نرى الدماء والقتل والخراب والاحتراب، ونرى تفكك الدول وخطر تفكك الكيانات والأوطان، ونشهد انبعاث العصبيات والغرائز على حساب الهوية الوطنية والقومية، وتتقدّم أفكار وعقائد مؤسسة على الجهل وثقافة التخلف والإقصاء والتكفير والقتل وبقر البطون وأكل الأكباد، لتحلّ مكان ثقافة الدولة المدنية ومشروع العصرنة والحداثة، ونسمع بأعداء جدد للأمة بدلاً من أعدائها الذين نهبوا ثرواتها وانتهكوا ترابها، وها هي فلسطين لا تزال تستصرخ وهي تذبح ألف مرة كلّ يوم وما من مغيث، ولا يبدو أنّ الأمة قد مرّت بحال أسوأ من هذه الحال، ولا يبدو من المبالغة بشيء القول إنّ الفكرة القومية العربية تحتضر، بعدما سجّي المشروع القومي العربي سراً من دون مراسم دفن، ومات من دون أن نملك تاريخاً دقيقاً لوفاته ووثيقة وفاة ولا حصر إرث وجمع معزين.
– ليس مبرّر جمعنا هنا هو البكاء على الأطلال، أن نبكي كالنساء زمناً لم نحسن أن ندافع عنه كالرجال، وهذه تورية شكلية واستعارة تاريخية رمزية لا ترمي إلى التقليل من قيمة المرأة على الإطلاق، ولا يدّعي لقاؤنا أنه مشروع تأسيسي جديد للمشروع القومي، ولا الهدف أن نتحوّل إلى صالون ترف فكري نتبادل فيه القيل والقال ونستعيد الذكريات الجميلة فنرضي بعضاً من نرجسيتنا الفردية، أو نرضي ذواتنا بالجمع لتعزية النفس بأننا لا نزال على قيد الحياة، فالمشروع إذن لا يزال حياً، وهو كسيارة وقعت في واد سحيق وتحطمت ولا يزال جهاز مذياعها مشتغلاً.
– أن نبدأ من هنا فنعترف أننا مذياع يشتغل في سيارة محطمة مهشمة، فماذا يمكن أن يفيد هذا المذياع إن لم يكن لاستغاثة استنجاد، ونداء نخوة وشحذ همم، لمن يستنقذ هذا الحطام ويحاول أن يداوي جراحاته، ويرمم ما أصابه ويسعى لإعادته إلى دورة الحياة، والنداء هنا والاستغاثة مهمتان جليلتان، تكفيان لمؤتمرنا في هذه الدورة.
– القضية الملحة هي أن نتفق على مضمون النداء وجوهر الاستغاثة، وقد تفرّق بعضنا عن بعض، وعصفت بعقولنا ومشاعرنا الأهواء والأنواء، وبات ملحاً أن نتكاشف بالمشترك الجامع الذي يبرّر حملنا لهذا الاسم وحدود حقنا ومشروعيتنا في الاجتهاد، للمواءمة بين تفكير كلّ منا وانتمائه المقابل لجمع يحمل اسم مؤتمر وليس منتدى، وقومي عربي.
– لقد عرفت القومية العربية قادة مؤسسين ومفاهيم تأسيسية، هما ركنا لقائنا ومرجعية خلافاتنا، من القادة من كان بكلّ ما ترك من أثر موضع إجماع، كحال الزعيم جمال عبد الناصر ومكانته في الميراث القومي، ومنهم من التقى الجمع على بعض ما أسّسوا من ميراث، كحال الاتفاق على مكانة الرئيس حافظ الأسد في حرب تشرين وإعادة الثقة بقدرات الأمة وجيوشها على التصدي لمهمة التحرير، رغم الاختلاف على كثير من المحطات الأخرى في ميراثه كدخول قواته إلى لبنان ودورها فيه أو مشاركته في حرب تحرير الكويت، وكذلك هو حال الاتفاق على التحدي التكنولوجي والعسكري الذي مثله الرئيس صدام حسين بمشروعه النووي واشتباكه الوجودي الأخير مع المشروع الأميركي على رغم الاختلاف على محطات أخرى في ميراثه كالحرب مع إيران والكثير من السياسات الداخلية، وحال الرئيس ياسر عرفات والاتفاق بالإجماع على مكانته في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة وللكفاح المسلح كطريق لتحريرها على رغم الاختلاف على الكثير من السياسات والاجتهادات، ومثلهم، ممن غادرونا بنسب مختلفة يطاولها بعض قليل من الإجماع وكثير من الاختلاف آخرون من قامات أمثال أحمد بن بيلا وهواري بو مدين والعقيد معمر القذافي، وسواهما، أما من الأحياء فيتقدّم اسم كلّ من الرئيس بشار الأسد بدعمه للمقاومة في حربي التحرير والردع للمشروع الصهيوني في لبنان وفلسطين وتصدّيه النادر للغزوة الأميركية للعراق ودفتر شروط كولن باول للهيمنة الأميركية على سورية بعدها، ونجاحه في تثبيت ثقافة للمواجهة عنوانها الممانعة إذا تعذر التحرير، والتباين بيننا حوله في الموقف من السياسات الداخلية، وكذلك قامة هائلة التأثير بما أنجزت هو السيد حسن نصرالله، والإجماع حول دوره في إعادة تثبيت ثقافة المقاومة كمنهج وفلسفة وطريق لصناعة النصر، على رغم الاختلاف على أبعاد علاقته بملفات أخرى كثيرة في المنطقة.
– أن نتفق على المكانة المرجعية للزعيم جمال عبد الناصر، وأن نحصر بالقادة المذكورين صفة قادة في الحركة القومية العربية، وحصراً في مواضع الإجماع بيننا حولهم، يعني أن نعترف بأنّ المشروعية لتحديد ماهية المشروع القومي لا يستمدّها أحد من الادّعاء بل من الإنجاز، المتوّج بإجماع الأمة ونخبها، وهذا عندما نطبقه بصرامة على من ورد من قادة عظام وكبار، يعني أن نتواضع كجمع وأفراد، والتواضع نحتاجه هنا كشرط للنزاهة، ونحتاجه مثبتاً كشرط فكري تاريخي لمهمتنا، لنقول إن ليس بيننا من له هذه المشروعية في الإضافة والتعديل.
– في ثوابت المشروع القومي بمعيار الإنجاز والإجماع، لا تبدو قضية الوحدة من عناوين الإنجاز في تاريخ الحركة القومية حتى في ذروة صعودها، مع أعظم زعمائها، جمال عبد الناصر، على رغم تقدير التجارب والمحاولات وأهمية قراءتها واستيعاب دروسها، كما لا تبدو نماذج التنمية والعدالة كوجهين للبناء الاقتصادي الاجتماعي قد نجحتا في تقديم مشروع متكامل الأركان يضعها في مصاف الثوابت، والشعار نفسه، أيّ الاشتراكية، قد أصابته الكثير من الجراحات، ليتقدّم مفهوم الأمن القومي العربي بصفته ثابت الحدّ الأدنى الذي يسقط مبرّر الحديث عن القومية العربية وعن قوميين عرب وعن مؤتمر قومي عربي إذا سقط.
– حدّد جمال عبد الناصر مفهوم الأمن القومي العربي بثلاثيتين، العدو يتجسّد بثلاثية هي: الاستعمار وعلى رأسه مشروع الهيمنة الأميركية، والصهيونية وتجسيدها في بلادنا الكيان الغاصب لفلسطين، والرجعية التي تحاكي مصالح الاستعمار والصهيونية وتتآمر معهما على الأمة وقضاياها وعلى رأسها المملكة السعودية، أما الثلاثية الثانية فهي أولاً مواجهة الاستعمار برفع راية الاستقلال الوطني وطرد النفوذ الأجنبي الاقتصادي والسياسي والعسكري وتقدّمها كراية حصرية على رايات الديمقراطية والتنمية والعدالة بصفتها شرطاً وجودياً لكلّ راية أخرى، واعتبار كلّ تقديم لراية أخرى على الاستقلال عملية افتعال لتسويق العمالة والتبعية، وثانياً اعتبار الأولوية للقتال ضدّ «إسرائيل» وإعداد الجيوش لهذه المهمة ورفض كلّ صلح مع العدو، وتشجيع روح المقاومة وتنميتها، لدى الشعوب، لتكون فلسطين دائماً قضية العرب المركزية، واعتبار كلّ محاولة لحرف الصراع معها نحو عداوات أخرى حماية لها وتشريعاً لاغتصابها لفلسطين، فما أخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة، ولا صلح لا تفاوض لا اعتراف، وثالثاً، الصراع مع الرجعية تتمة لا مفرّ منها للمواجهة المفتوحة مع الاستعمار والصهيونية، لأنّ مهمة الرجعية إثارة الفتن وضرب الروح القومية وتبرير التبعية وإشاعة ثقافة الخنوع للاستعمار والتطبيع مع الصهيونية.
– أثبتت تجارب القادة الذين جاؤوا بعد جمال عبد الناصر ونالوا مشروعية الإضافة والاجتهاد بإنجازاتهم في ما تحقق حوله الإجماع، أنّ ثوابت الأمن القومي العربي التي وضعها جمال عبد الناصر، لم يلحقها أي تبديل، فمن غامر بالاجتهاد من هؤلاء القادة بمهادنة الاستعمار أو الصهيونية أو الرجعية أو ائتمن أي منها لمرحلة أو سانحة، أصيب مشروعه في الصميم جراء هذه المهادنة.
– التحدّي اليوم أمامنا أن نطلق النداء الذي يستعيد ثوابت الأمن القومي العربي ليستحق مؤتمرنا بجدارة هويته وصفته، فيكون مؤتمراً، قومياً، وعربياً، وعندها ستهون علينا مقاربة مسائل الوضع الراهن من موقع هذه الثوابت، فلا تتشوّش رؤيتنا لا في سورية ولا في اليمن ولا في العراق ولا في لبنان وخصوصاً في فلسطين.
– فليكن البيان الختامي مرفقاً بنداء يحمل اسم نداء جمال عبد الناصر من بيروت لثوابت الأمن القومي العربي، ويتضمّن فقط استعادة حرفية لكلمات الزعيم الخالد حول عناوين وثوابت الأمن القومي العربي.
– ما أشبه اليوم بالأمس، وما أبسط الوصول إلى الحقيقة إنْ توافر صفاء النية والعزم والحزم بلا عواصف.
(البناء)