أوهام التسويات الأميركية
غالب قنديل
منذ عقود تجمع السياسات الأميركية في المنطقة بين استعمال القوة العسكرية مباشرة وبالواسطة لطحن القوى الحية وضرب حركات التحرر والاستقلال والمقاومة وهندسة الوهم حول الحلول السياسية لرسم سقوف تمنع تجذر قوى المقاومة واندفاعها إلى سياقات حاسمة تهدد القوى الرجعية العميلة للهيمنة الاستعمارية الصهيونية .
أولا تشكل الحركة الاستراتيجية الأميركية في الصراع العربي الصهيوني نموذجا حيا لثنائية استعمال القوة وترويج اوهام التسوية لتوهين قوى المقاومة وتحضير منصات الاستسلام بوضع الشعوب وحركات التحرر بين فكي كماشة.
منذ عام 1968 أطلقت الولايات المتحدة ما يسمى بعملية السلام في المنطقة عبر مشروع روجرز الشهير الذي أعقب هزيمة حزيران وشكلت إطارا لجر الدول العربية إلى مسار الاستسلام والاعتراف بإسرائيل والعلاقة معها سياسيا واقتصاديا والتواطؤ أمنيا وشكل الدعم المتواصل لترسانة إسرائيل العدوانية والشراكة العضوية في حروبها المتلاحقة التي شملت احتلال لبنان والاشتباك مع سوريا والعمل لتصفية حركات المقاومة اللبنانية والفلسطينة وتهديد إيران وتدبير حرب ضدها دامت سنوات بالتوازي مع رمي الثقل الأميركي العالمي والإقليمي لدعم ما سمي اتفاقات السلام منذ اتفاقية كمب ديفيد ومن بعدها اتفاق 17 أيار الذي أسقطته المقاومة اللبنانية وصولا إلى اتفاقي وادي عربة واوسلو وصولا إلى المشهد الراهن المجسد بنسج تحالف سعودي إسرائيلي لا ينقصه غير الإعلان السياسي بعدما بات الكلام عنه مباحا في الرياض وتل أبيب التي كشفت عن تحالفها الوثيق مع فصائل القاعدة في العدوان على سوريا وأسقطت وهما عشش طويلا وتم الترويج له عمدا حول مخاوفها المزعومة من التطرف الإرهابي التكفيري.
ثانيا تمثل السياسة الأميركية في قيادة العدوان الاستعماري على سوريا نموذجا لهذه الثنائية فبينما تزعم الولايات المتحدة رفض الإرهاب التكفيري الذي هو أداة حروبها بالواسطة منذ أفغانستان بالشراكة مع الوهابية السعودية والحكومات التابعة التي تتقدمها تركيا ترعى الولايات المتحدة منصات دعم الإرهابيين في سوريا لاستنزاف وضرب الدولة الوطنية المقاومة التي استعصت على التطويع طيلة خمسة وأربعين عاما رغم جميع المحاولات الخشنة والناعمة لإلحاقها بمسار الاستسلام للمشيئة الاستعمارية الصهيونية.
مع إدارتهم المتواصلة للحرب يروج الأميركيون لأكذوبة انهم مع الحل السياسي السوري الذي يريدون منه تحقيق ما عجزوا عنه حتى الآن في الحرب الشاملة على سوريا بجميع محاورها من منظومة العقوبات والحصار إلى رعاية تدريب الإرهابيين وضمان استمرار تدفق المال والسلاح والمقاتلين نحو الداخل السوري بواسطة حلف الحرب العدوانية الذي يضم إسرائيل وتركيا والسعودية وقطر والأردن .
الهدف الأميركي المباشر من خطاب الحل السياسي هو لجم التطور المحتمل في مواقف ومبادرات حلفاء سوريا وشركائها وخصوصا روسيا والصين وإيران والحد من أي اندفاعة هجومية لهذا المحور تفتح آفاق انتصار الجيش العربي السوري على عصابات الإرهاب والتكفير.
ثالثا الخلل الخطير الذي احدثته الولايات المتحدة في التفكير السياسي السائد في المنطقة ولدى جهات كثيرة هو الافتراض الدائم والمستمر لفرص التسويات بعد كل جولة من المجابهة بينما في الواقع ثبت ان واشنطن تخطط بإحكام لتعديل التوازنات وإدامة الاشتباك خصوصا عندما لا تدفع من قواتها واموالها كلفة الحروب وهذا ما تبرهن عليه الجولة الراهنة من العدوان الاستعماري على سوريا .
بينما تتجه الولايات المتحدة للاعتراف بالقوة الإيرانية الصاعدة تحضر في مراكز الأبحاث خططها لغزو إيران بالقوة الناعمة لتفكيك ثقافة الاستقلال وروح المقاومة التي أنشاتها الثورة الإيرانية قبل ستة وثلاثين عاما وشكلت قوة الدفع الاستراتيجية لملحمة الشعب الإيراني ضد الحصار والعقوبات وحولت التهديد إلى فرصة وبينما يؤكد القادة الأميركيون على السير في طريق التفاوض مع إيران يضمرون توجهات خبيثة للتدخل في هذا البلد عبر الرهان على الإغراق الاستهلاكي ونسج العلاقات السياسية بمن يتحسسون لديهم الاستعداد لضمان مداخل محتملة في التأثير على الخيارات الإيرانية المقبلة خصوصا في الموقف الداعم لحركات المقاومة ولقضية فلسطين تحت شعار احتواء القوة الإيرانية وحيث يخططون لاستثمار ما يدعونه النزوع إلى الاستقرار بناء على خبرة ثورتهم المضادة “الخضراء” التي هزمها الإيرانيون قبل سنوات.
جوهر السياسة الأميركية في المنطقة هو حماية إسرائيل ومحاولات احتواء إيران وتدمير سوريا ومواصلة استنزاف المنطقة العربية عبر وحش التكفير جميعها خطوط مؤدية إلى حصيلة واحدة نشهد معالمها اليوم فالبلاد العربية غارقة في الدماء وإسرائيل تحصد مكاسب جديدة بفضل الرجعية السعودية ومنظومة الهيمنة الاستعمارية الصهيونية التي تشارك في العدوان على سوريا ويقينا سيكون الميدان السوري هو المقرر والحاسم لوجهة المرحلة الراهنة من الصراع بين الاستعمار الأميركي وشعوب المنطقة والعالم .