أوروبا وخطر «الجهاديين»: نقاش حول الفشل! وسيم ابراهيم
لدى كل حديث عن الموضوع، يجد المعنيون أنفسهم يرددون عبارة «لكننا نحتاج إلى فعل المزيد».
هكذا مرّ عامان منذ أطلق الأوروبيون إستراتيجية شاملة لمواجهة ظاهرة الجهاديين.
سؤال النجاح أو الفشل يمكن مقاربة إجابته بالأرقام: حين أعلنوا عن خططهم في حزيران العام 2013 كان عدد «الجهاديين» الأوروبيين يقارب ثلاثة آلاف… الآن بات العدد الضعف!
الفشل يقر به مسؤولون يقولون إنه لم يتم القيام بما يكفي، وليس على الوجه المطلوب تحديداً. لكن خبراء درسوا الظاهرة في بعدها الاجتماعي العميق، يقولون إن حربي سوريا والعراق، وحتى نجومية «داعش»، كلها ليست إلا أسباباً جانبية. بعضهم يرى ذلك مجرد حوافز ومنشّطات لأزمة في المجتمع الأوروبي، لن تختفي طوال جيل بأكمله، وستعود للظهور حتى لو سوّيت طموحات «داعش» بالأرض.
يغفو الاهتمام بقضية «الجهاديين» مع ظهور أحداث ساخنة أخرى، لكنه لا يفارق اهتمامات الإعلام الأوروبي. أحياناً لحدث مكرر، لكنه يحمل تشويقاً خاصاً، كسفر مراهقات للانضمام إلى «دولة الخلافة»، أو كظهور نوع متطور من التهديد، كاحتمال تنفيذ «جهاديين» عائدين هجمات بغاز الكلور.
وسط كل ذلك، يعود السؤال الجوهري البسيط إلى الورود على كل لسان: ما الذي يدفع مواطناً أوروبياً، تربّى في دولة الحقوق والديموقراطية، إلى السفر والقتال مع مجموعات ظلامية، لا بل التهديد بالعودة للقيام باعتداء إرهابي ضد مواطني أو مصالح دولته؟
هذا السؤال، في بطانته، يقول شيئا آخر غير ما يطفو على سطحه: ظاهرة «الجهاديين» هذه، مشكلة من بالضبط؟ هل هي مشكلة تعني المجتمع الأوروبي بالمجمل، لجهة كيفية إدارة الدولة لتنوعه العرقي والديني؟ أم هي مشكلة خاصة تعني المجتمعات الإسلامية في أوروبا؟
لدى مقاربة هذه الأسئلة، يقدم بيتر نيومان، مدير «المركز الدولي لدراسات التطرف»، قراءة متشائمة، لكنه يعتبرها مستمدة من واقع المشكلة. خلال حديث الى «السفير»، يقول نيومان إن «هناك فشلاً في العديد من الدول الأوروبية، فكثير منها ليست ناجحة جداً في إيقاف سفر الناس للقتال».
مدير المركز المرموق في لندن يستعرض أسباب الفشل في ثلاث نواح: بعض الدول الأوروبية ليست لديها قوانين تمنع سفر «الجهاديين»، كما أن «التعامل الصحيح» مع العائدين ليس مضموناً دائماً، لأن «هناك حالات تستوجب السجن وأخرى دخول برامج إزالة التطرف».
الناحية الثالثة تذهب مباشرة للإجابة على جوهر أسئلة «هذه مشكلة مَن؟»، إذ يعتبر الباحث أن السيطرة على «العامل طويل الأجل» مرهون بأن «تصبح الدول الأوروبية أفضل في دمج المجتمعات المسلمة».
ولأن عناصر «الفشل» مجتمعة، يقول نيومان إن أوروبا «ستشهد ظاهرة المقاتلين الأجانب لوقت طويل، وسيستمر ذلك لجيل بأكمله، بغض النظر كيف يسير الصراع في سوريا والعراق أو ليبيا، لأن المسألة مرتبطة بوجود الفرصة للانخراط في صراعات كهذه»، قبل أن يخلص إلى القول: «بالتأكيد، حين توجد فرصة سانحة، سنشاهد بروز هذه الظاهرة مجدداً».
حضر نيومان مع مجموعة من الخبراء والباحثين المعروفين نقاشا معمّقا للظاهرة، استمر لساعات طويلة في البرلمان الأوروبي مؤخراً. وردت مقاربات متنوعة لجوانب ظاهرة «الجهاديين»، لكن مع توافق لافت على تحديد عمودها الفقري: بصرف الاختلاف في شخصيات من سافروا للقتال ودوافعهم وظروفهم، الا ان ما يجمعهم هو أنهم «لا يجدون أن لديهم مصلحة أو مكاناً في المجتمع الأوروبي».
تحديد كهذا لأصل العلة يلقى موافقة فريديك فان ليو، المدعي العام الفدرالي في بلجيكا. بلاده هي الاكثر للظاهرة، ويقدر عدد «جهادييها» بما يزيد على 400 مقاتل. طبعاً، العديد من هؤلاء قُتلوا وصاروا معروفين بالاسم، كما أن بلجيكا شهدت مقاضاة عشرات منهم قبل أشهر، ليحكم عليهم بالسجن بين 3 و15 عاماً.
ويقول فان ليو، خلال مقابلة مع «السفير»، إن النزاهة تقضي القيام باعتراف جماعي ومؤلم. ويضيف، مقرّاً بـ «الفشل» في تحجيم الظاهرة، «أنه سؤال كبير لمجتمعنا، فعلينا طرح السؤال: لماذا كل هؤلاء يريدون السفر للقتال هناك. المجتمع بأسره عليه مواجهة هذا السؤال». وفي الوقت ذاته، يحذر من حرف الإجابات إلى مسارات جانبية، إذ يرى أن «علينا القيام بمساءلة حقيقية، فالواقع أن هؤلاء الشباب تربوا هنا ضمن ثقافتهم، لكن ضمن الثقافة الأوروبية، وبالنسبة لي هم أوروبيون حقيقيون».
هناك بين من سافروا للقتال من لم ير مسجداً في حياته، وبينهم من طلب المغامرة أو من وجد «قضية كبرى» لتدور حولها حياته. هناك المتعلمون وخريجو الجامعات والمعاهد، وأيضاً من غادروا مدارسهم في وقت مبكر. اختلافات تجعل من الخطأ وضع شخصية نمطية، لكن الصحيح أيضاً أن هناك نسبة ليست قليلة جاءت من بيئات شديدة المحافظة.
على سبيل المثال فإنّ أحد «الجهاديين» البلجيكيين – لا يُعرف حتى الآن مصيره بالضبط – جاء من عائلة كتبت ابنتها رسالة «تعليمات» إلى زملائها الجدد في الصف الجامعي. وطلبت من زميلاتها أن يتم إيصالها إلى زملائها الشبان، بعدما كتبت تحت آية قرآنية شارحة الفحوى: «لا تتحدثوا معي فأنا لن أتحدث إليكم، ولا تجلسوا في جواري». هذه الشابة ترتدي خماراً لا يظهر غير وجهها. نوع كهذا من الأسباب، يجعل بعض العارفين بما يجري داخل المجتمعات المسلمة الأوروبية يقولون إنها تحتضن ضعفاً تسرب إليها تدريجياً، وليس من الحكمة عدم مواجهته. أحدهم محمد أجواو، المسؤول عن الأئمة المسلمين الذين يعملون في السجون الهولندية، كما أنه بروفسور مساعد في جامعة أمستردام، قال على مسمع النواب الأوروبيين إن «هناك تقاليداً إسلامية دعمها المركز الإسلامي في أوروبا، ما قاد إلى وجود مسلمين أقل مقاومة للتطرف».
القصد هنا تحديداً هو تنامي الدعاية للفكر «الوهابي» في أوروبا، وهو ما نبّه إليه بالاسم سابقا المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب جيل دو كيرشوف. القضية أن السعودية تحديداً موّلت بسخاء إقامة مراكز دينية تروج للفكر الوهابي، ومنها المركز الإسلامي المعروف في بروكسل. تحذيرات دو كيرشوف استحضرت ما حصل لموريتانيا، مذكرا بأنها كانت بلد تسوده الصوفية الإسلامية قبل أن تحوله مدارس السعودية المتكاثرة إلى غالبية وهابية.
نظرا لكل هذا، يؤكد رجل الدين والأكاديمي أجواو أن هناك مسؤولية يتحملها مسلمو أوروبا لوقف زحف تقاليد تناقض طبيعة عيش مجتمعهم الغربي. يقول بكلمات لا تحتمل تأويلات عديدة إن «على المسلمين تمويل مجتمعهم الإسلامي بأنفسهم، وعدم الاعتماد على الأعطيات والمنح من الخارج».
حسم هذه القضايا العامة هي مسؤولية الدولة الأوروبية، كما قال العديد من الخبراء، لأن صناعة القرار السياسي هي بالدرجة الأولى في يدها. من وضع برامج «إدماج» المهاجرين الأوائل، والأجيال اللاحقة، كانت إدارات حكومية، لكن هذه الخطط لم تخضع لتقييم جدّي وعلني يقول أين أخفقت بالضبط. هذا ما يفترض أن يحصل مع أي مشروع حكومي، كانت تصرف عليه الأموال العامة لسنوات.
بدلا من مواجهة الأسئلة الصعبة يجري الهروب إلى نقاشات ثانوية، كما يقول ديديه بيغو، البروفسور في جامعة «كينغز كوليغ» البريطانية. أعد الرجل دراسة مفصلة حول مكافحة تطرف الشباب الأوروبي، وهو ينتقد كيف «يتحول النقاش دائماً من الأساسي إلى الفرعي والثانوي، ويصير متمحوراً مثلا حول الـ (ميديا) الاجتماعية والخوف على الغالبية أن تصبح أقلية» وسط «فوبيا الإسلام» المتصاعدة.
وسط تنامي الخطاب اليميني المتطرف وطروحاته، يعود الباحث بيتر نيومان إلى التصويب على مصدر الانحرافات التي تغذي حلولاً لا تفعل إلى زيادة عمق المشكلة: «علينا وقف الحديث عن المجتمع المسلم، إنهم من المجتمع الأوروبي، إنهم جزء منا ولا مكان آخر يذهبون إليه، لذلك يجب إيجاد مصلحة لهم هنا على المدى الطويل».
(السفير)