تدمر: الأرض قبل الاستراتيجيا عامر نعيم الياس
هل نطالب الجيش السوري بنقل مدينة تدمر من مكانها لحمايتها من «الفاتحين» مصّاصي الدماء؟ هل نطالب الجيش بتحمّل ما لا يتحمّله؟
لا نطالب أحداً بتحمّل ما لا يحتمله، لكن ما جرى يوم أمس في مدينة تدمر طرح علامات استفهام لا تنتهي، سواء بالنسبة إلى المحور المؤيد للدولة السورية، أو بالنسبة إلى الأعداء الطامعين بالقضاء على الأرض السورية وحرقها عن بكرة أبيها، تمهيداً لتحويل البلاد إلى بقايا صوَر، حضارة مصوّرة أو مرسومة، أو ربما إلى ديكور في فيلم سينمائيّ أو مسلسل تلفزيوني لا أكثر. هنا يصبح بثّ التلفزيون السوري مسلسل «العبابيد» مفارقةً تتعدّى في سخريتها المأساة التي نعاني منها منذ سنوات أربع.
تُطرح الأسئلة بدءاً من الأعداء، فعشية الكلام عن نجاح الجيش السوري في صدّ هجوم «داعش» على المدينة، تناول الإعلام الغربي الخبر على خجل، وبما يؤكد أن هذا النجاح في صدّ الهجوم وجّه صفعةً للطرف الآخر. فمقابل صرخات «اليونسكو»، ومحبّي التراث الإنساني والمدافعين عنه دولياً، وفي ضوء الربط بين ما حصل في الموصل وآثار نمرود والمدن الأثرية الأخرى في الرافدين، وإسقاط السيناريو بالضرورة على تدمر، وربما سريعاً بشكل يفوق العراق، لماذا لم تتحرك طائرات تحالف أوباما لمواجهة «داعش» في تدمر، أقله في محيط المدينة الأثرية التي تعتبر تراثاً عالمياً لا علاقة له بنظامٍ هنا ودولةٍ هناك؟
تبرّر «لوفيغارو» الفرنسية قائلةً «إن عدم التحرك الأميركي جاء خوفاً من أن يقال إن القوات الأميركية تقاتل إلى جانب نظام دمشق».
في سياق متّصل، وفور السيطرة على المدينة، انبرى الإعلامان الغربي والعربي المضاد كما بعض الموالي للدولة السورية في الوقوع في مطبّ سيطرة «داعش» على نصف مساحة الجمهورية السورية، الخرائط والألوان الداعمة لأماكن توزّع السيطرة كانت جاهزة على الفور، والتحريض على التقسيم كان واضحاً، فالمساحة التي سيطر عليها «داعش» هي مساحة خالية من السكان الذين يتمركزون في دمشق والشريط الساحلي وعلى مناطق الحدود الللبنانية، أي في «سورية الضرورية» والتي تفرض على الجيش السوري من الآن فصاعداً وضع حمايتها نصب عينيه، الكلام هنا أيضاً لصحيفة «لوفيغارو».
هو ترويج ممنهج لـ«داعش» في ذكرى تأسيسه السنوية، ودعايةٌ لإنجازاته التي تمثلت باحتلال الرمادي في العراق وتدمر في سورية في غضون ثلاثة أيام. مدينتان أراد الإعلام الغربي توظيفهما في خدمة بثّ الذعر في قلوب سكان العاصمتين العراقية والسورية. فالأولى يبعد عنها «داعش» 100 كيلومتر، فيما يبعد عن الثانية 200 كيلومتر.
في المقابل، ماذا فعلنا نحن؟ رُوّج لانسحاب «داعش» من مدينة تدمر وهروبه منها برتل مؤلف من ثمانين سيارة، ربطاً باستقدام تعزيزات كبيرة من الجيش السوري والقوات الرديفة، فضلاً عن نشر خبرٍ مفاده أن المئات من شباب مدينة تدمر هبوا للتطوع إلى جانب الجيش السوري دفاعاً عن مدينتهم في مواجهة «داعش»، أي بطريقةٍ أو بأخرى، تمّ التعمّد هذه المرة بالإشارة مباشرةً إلى تأثير عامل الكم في مجمل المعارك الدائرة على الأرض السورية، ودوره المحوري في ترجيح كفة طرف على آخر، حتى توصلنا إلى القول إن «داعش» في موقف دفاعي، وهذا ما كتبناه في «البناء». وبين ليلةٍ وضحاها، سقطت المدينة وأُخرِج ما أتيح من قطع أثرية ذات أهمية من المدينة، بينما بقي البعض الآخر. بمعنى أنه تم الانسحاب وفقاً لضرورات فرضتها المعركة، واجتاح «داعش» تدمر. هنا لا نحاكم من انسحب أو اتخذ قرار الانسحاب، فالجيش السوري والقادة الميدانيون وحدهم القادرون على تحديد ما هو مناسب، لكن المواكبة الإعلامية المرافقة لملف ما جرى في تدمر، صبّت هي الأخرى في سياق المعركة الإعلامية المضادة التي تهدف إلى تدمير معنويات الطرف المؤيد للدولة السورية. فما جرى يوم أمس كان انقلاباً دراماتيكياً وقع كالصاعقة على كل من يعتبر سورية وطناً له ويناصر الدولة السورية في المعركة ضدّ الفاشية الإسلامية.
المدينة الأثرية صارت تحت سيطرة «داعش»، أُخرِج آثار، لكن الأرض بقيت مكانها، هي اليوم تحت تهديد جرّافات ستعمل بسرعة، ما لم يُشنّ هجوم مضاد لاستعادة جزء من هوية سورية المقاومة. هنا لا نريد الدخول في الاستراتيجيا والسياسة وخطوط الانتشار، هنا نريد القول إن تدمر جزء من هوية سورية تكالب عليها الفاسدون، كل الفاسدين في هذا الكون ومن دون استثناء أحد.
(البناء)