قراءة نووية في التفاوض السياسي الإيراني ـ الأميركي
اعتاد المحللون والمتابعون على قراءة سياسية للتفاوض النووي الإيراني الأميركي، انطلاقاً من العنوان الافتراضي العالق في الأذهان للنزاع ومن ورائه التفاوض، لكن المتابع لصيرورة التفاوض بين النووي والسياسي سيجد ببساطة أنّ النووي يتبع السياسي وليس العكس.
الغرب الذي تقوده أميركا خاض المواجهة مع إيران تحت عنوان التشكيك بصدقية تعهّداتها بالطابع السلمي، يوم كان الملف النووي لإيران لا يتضمّن إقراراً بشرعية حقها في التخصيب، ولم تكن قد وصلت إلى مرحلة تتيح لها تصنيع أجهزة الطرد المركزي التي تتولى عملية التخصيب بعد، وها هو يقبل التعهّدات نفسها التي رفضها من قبل وقد بات عليه الاعتراف لإيران بحقها في التخصيب، بعدما كان عنوان العقوبات منع إيران من امتلاك تكنولوجيا التخصيب باعتبارها الحلقة الفاصلة بين النووي السلمي والاستخدام العسكري للطاقة النووية، وفجأة لم يعد التخصيب مؤشراً على عسكرة البرنامج.
الحملات الإعلامية والقانونية التي نظمتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي يفترض أنها كمنظمة تابعة للأمم المتحدة منزهة عن المصالح والغايات السياسية، أو تحرص على الأقل لتظهير مواقفها على هذا الأساس، ركزت لمدة طويلة على جانبين من البرنامج النووي الإيراني، ما بعد التخصيب، الأولى هي الشك بوجود مفاعلات تعمل بالماء الثقيل وتنتج بالتالي البلوتونيوم الأكثر خطورة بين النظائر المشعّة لقابليته للاستخدام الحربي، والثانية هي بلوغ التخصيب مرحلة العشرين في المئة التي يصبح متاحاً معها الدخول للتخصيب الأعلى بمجرّد تعديل البرمجيات لكونها العتبة التقنية لمرحلة التخصيب للأغراض العسكرية، ومن دون مبرّرات مقنعة، ولأسباب لا تتصل إلا بتحسّن المناخ التفاوضي بين واشنطن وطهران وافقت الوكالة على البرنامجين الإيرانيين، لتخصيب عند عتبة العشرين في المئة لكميات وصفت بحاجات ضرورات البحث العلمي، كما وافقت على برنامج المفاعل المنتج للطاقة بواسطة الماء الثقيل في ناطنز، وزاره مفتشوها وأصدروا تقريراً إيجابياً عن تقيده بعوامل الأمان الموضوعة من الوكالة، وصار لإيران حق كانت ممنوعة منه من قبل بذات قوانين الوكالة.
في تقرير للحلف الأطلسي عام 2010 تبنت دول الحلف سياسة تجاه الملف النووي الإيراني تربط بينه وبين السلاح الصاروخي المتعاظم لإيران، وخطورة أن تمتلك دولة لديها هذه الطاقة الصاروخية البالستية قدرة نووية سلمية، لأن الانتقال نحو الاستخدام الحربي يصبح متاحاً بكبسة زر كما قال يومها أمين عام الحلف. ومن يتابع المفاوضات الدائرة اليوم وعناوينها، لا يجد أثراً للحديث عن سلاح الصواريخ الإيرانية، منذ المناورة الصاروخية الشهيرة لإيران في الخليج قبالة الحاملات الأميركية التي أعقبتها الرسالة الأولى التي وجهها الرئيس الأميركي باراك أوباما لمرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي الخامنئي، طلباً لحل تفاوضي للنزاعات وتأكيداً أن بلاده لا تريد تأزيماً ولا مواجهة مع إيران.
بين التخصيب الممنوع بالمبدأ والتخصيب كحق نظري، والتخصيب كواقع عملي للأبحاث العلمية على درجة عشرين في المئة، وتخصيب بكميات وافية لتشغيل المفاعلات على مستوى الخمسة في المئة، كان التطور التفاوضي للملف النووي، مليئاً بالإنجازات والمكتسبات التي تحققها إيران، والسبب لم يكن غباء الغرب، بل البعد السياسي الإستراتيجي للتفاوض.
كان الرهان الأميركي على أحد ثلاثة، تحجيم إيران، أو إضعافها، أو عزلها عن المتوسط والخليج. التحجيم كانت أداته حروب «إسرائيل» على قوى المقاومة في لبنان وفلسطين، وقد وصلت إلى طريق مسدود، والإضعاف كان طريقه العقوبات حتى تقبل إيران ما كانت ترفضه من قبل طلباً للتنفس الاقتصادي وهرباً من الضائقة، أو تنجح العقوبات بتغيير البنية السياسية للحكم في إيران فتأتي بمن تسميهم واشنطن بالمعتدلين والقصد الذين يقبلون فك الصلة مع قوى المقاومة، وقد فشل الرهان المزدوج، وبقيت إيران الصامدة اقتصادياً وسياسياً، يقودها المرشد الذي اضطر الرئيس الأميركي لمراسلته أربع مرات، بينما الإعلام الغربي يتحدث عن ضعف المرشد المتشدّد أمام الرئيس الإصلاحي المعتدل، أما العزل عن المتوسط فتتولاه الحرب على سورية التي تصل إلى نهاياتها، بتثبيت درع الأسد للأسد، منذ رحلت الأساطيل الأميركية التي جاءت للحرب وانسحبت بحل تفاوضي للسلاح الكيماوي، فيتقدم التفاوض النووي بسرعة صاروخية وبطاقة نووية تستخدم البلوتونيوم المخصب ما فوق العشرين في المئة، خصوصاً عندما صارت إيران رمزاً لمجموعة حلفاء تضم حزب الله وسورية والعراق والحوثيين، هي القوة التي تقاتل ضد «داعش»، التي تعلن الحرب عليها أميركا وتنده في وادي الحلفاء تصرخ، هل من ناصر ينصرني فلا تجد تركيا ولا السعودية ولا «إسرائيل».
التقدم في التفاوض النووي الإيراني الأميركي يتم واقعياً ولو تأخر الإنجاز القانوني، لأننا عند التأخير يجب أن ننتبه أن الأمر صار متصلاً بقدرة أميركا على الوفاء بموجبات الاتفاق، وما يطاول وقف العقوبات، التي يبدو أنها تنتظر الضوء الأخضر من كونغرس لم يعد الديمقراطيون فيه أصحاب الغالبية المقرّرة.
(البناء)