عمليات الضفة والقطاع وأنوية المقاومة الجديدة
غالب قنديل
تعبّر الظواهر الأصيلة عن ذاتها، وتنبت وسط الصخور وفي قلب الصحارى أجباب ومجموعات تورق وتزهر، متحدّية قسوة المكان والزمان وشروط الوجود والاستمرار وقسوة الظروف والقيود المانعة لوجودها ولنموها وانتشارها.
.. هكذا هي أنوية المقاومة الجديدة في فلسطين بكلّ أنحائها وأقاليمها، ولا سيما في الضفة والقطاع. والنبت الأصيل سيبزغ لاحقا من تراب فلسطين المحتلة كلّها ومن قلب أرضها المغصوبة عام 48، فهذه سنّة حياة وتاريخ، لا يملك أيٌّ كان القدرة على كسرها أو ردّها أو منع نفاذها المحتوم.
سلسلة العمليات الفدائية والمجموعات المقاتلة التي تنفّذها في الضفة والقطاع، هي إشارة بشارة بزمن ثوريّ جديد وحقيقي، يهلّ على فلسطين حاملا مقوّمات الاستمرار والتطوّر التراكمي النوعي، الذي سيقودنا نحو فجر التحرير المنتظر الموعود من زمن النكبة عبر الأجيال التي ضحّت وراكمت خيبات وهزائم كثيرة.
تلاحقت الخيبات في معمعان مساومات ورهانات وتنازلات وصفقات واتفاقات، لم تجلب غير عار المساومة لمن عقدوها. وظل الاحتلال القاهر والذلّ الفاجر، هو المقيم والرابض على صدور الأجيال الفتية من الفلسطينيين، التي لا تجد لها طريقا غير التمرّد الغاضب انفجارا في وجه المحتل، وإن اقتضى الأمر نفث موجات الغضب في وجوه مَن ساوموا وعقدوا اتفاقيات بلا طائل إلا ما حصده العدو غدرا وتحايلا واقتناصا لسوانح الهوان والرضوخ.
أنوية المقاومة الجديدة تعبير عن قانون طبيعي وتاريخي. فلا فراغ في حيّز يستدعي ردّ الفعل على فعل الاحتلال والاغتصاب المتمادي والقهر المنظّم، والطبيعي والمنطقي، هو نشوء المقاومة بمنطق ردّ الفعل، وانتظامها بحاصل الميل البدائي للدفاع عن الوجود. فكيف الحال في بيئة تحمل مخزونا من الخبرات المتوارثة عبر أجيال تمرّست في القتال وخوض المعارك، التي تحفظ سيرتها ذاكرة الناس كميراث مخلّد في ذاكرة جمعية ومحطّ افتخار وطني وانتساب وهوية.
المقاومة الجديدة في فلسطين هي البشارة المنتظرة منذ عقود، وهي الأفق الذي تصبو اليه أجيال تعاقبت من الثوريين والمناضلين العرب بين المحيط والخليج، بعيدا عن عاهات التبقرط والانحراف وسوس النفط الذي نخر في أنسجة التنظيمات والواجهات المنفوطة، التي انهارت وتهاوت وهجرت تشكيلاتها القضية عن بكرة أبيها، ولهث منها القادة والزعماء الى مقاعد الواجهات الوثيرة وفقّاعات الكرنفالات المثيرة.
فلينتحي جانبا سفسطائيو الفذلكة والتنظير الأصفر المسموم، وليتركوا للتجربة وللوعي صقل الخبرات، وإن كان من مساهمة مفيدة يرتجونها، فليقدّموا قراءة نقدية جريئة لتجاربهم، وليمتلكوا جسارة النقد الذاتي إن شاؤوا نقل العبرة للأجيال الطالعة وتحصينها من تكرار الوقوع في الهوّة مرّة أخرى.
التجربة التاريخية تؤكد استحالة ولادة الجديد سوى من رحم القديم، وبدلا من تقصّي الموروثات، تفترض الرعاية الواجبة مناخا مواتيا للنمو والتطور وبيئة مناسبة، وأقلّ الواجب هو أن تُتاح للأجيال الفدائية الطالعة خبرات التجارب السابقة ودروسها، وإن كان من نخبة طليعية مقاتلة وثورية فتلك مهمتها الأشد إلحاحا وضرورة، وهي لا تحتمل التأجيل، وأجدى بكثير من الاستسلام لسياقات النشوء والنمو العفوي للبراعم الفدائية الوليدة الطرية تنظيما وخبرة.