لماذا تعاني أميركا في جاهزيتها العسكرية لشن حروب جديدة؟
تتصاعد ميزانيات وزارة الدفاع الأميركية دورياً إلى أرقام فلكية، متجاوزة نسبة 10% من مجموع الدخل القومي، من دون أن ترافقها مخصصات موازية لقطاعات الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، وهي تذهب إلى الإنفاق السخي على انتشار واسع للقوات العسكرية الأميركية في نحو 800 قاعدة عسكرية في أكثر من 80 دولة حول العالم، قبل احتساب انتشار قوات عسكرية محدودة العدد، كما في الصومال وسوريا، لتصل رقعة الانتشار إلى 177 دولة، بحسب إحصائية أستاذ الانثربولوجيا في الجامعة الأميركية في واشنطن، ديفيد فاين.
انتشار عسكري وتمدد ثابت تغذيه ميزانيات تنمو سنوياً: 778 مليار دولار لعام 2022، وما لا يقل عن 813 مليار دولار للعام المقبل، يدرك الشعب الأميركي منه اليسير، والأغلب ينقصه استيعاب أبعاده وانعكاساته على المديين المنظور والمتوسط.
يتردد بين الآونة والأخرى الاعتقاد الذي كان سائداً لدى عسكريي حرب فيتنام بأن بوسع الولايات المتحدة دخول حرب على جبهتين متزامنتين: فيتنام وأوروبا. وانطلاقاً من ذلك، تدور التساؤلات عن تطور المسرح الآن شرقاً باستهداف روسيا والصين؛ الأولى في محيطها الجغرافي المباشر، والثانية في بحر الصين الجنوبي، وحرب أخرى تدور رحاها في الوطن العربي؛ سوريا والعراق واليمن وشبه الجزيرة العربية.
أفرزت الحرب في أوكرانيا جملة تحديات على قرارات البنتاغون، كنتيجة مباشرة لتوريد الأسلحة والذخائر المختلفة من مستودعات القوات الأميركية واستنزاف احتياطيها، إضافةً إلى تهالك بعض المعدات العسكرية وتوقيف أسطول المقاتلات المروحية من طراز “شينوك”، وقوامه نحو 400 طائرة.
تسارع استهلاك ذخيرة الأسلحة الأميركية، نتيجة توفيرها بكثافة إلى أوكرانيا، استدعى انتباه رئيس هيئة الأركان المشتركة، مارك ميللي، لإجراء مراجعة دورية شهرية للتيقن من عدم استنزاف الترسانة الأميركية إلى مستويات متدنية، واستبدال بعض الأسلحة المرسلة إلى كييف، كما جرى بتوفير مدافع من طراز هاوتزر-105 ملم عوضاً عن الأقوى (155 ملم)، التي تخشى القيادات العسكرية استنزافها “إلى مستويات غير مرحب بها”، بحسب بيانات البنتاغون.
وأوجز قادة عسكريون أميركيون التحديات الراهنة للترسانة الأميركية بالقول: “طلَب أوكرانيا من الذخائر يتعاظم كما لو كانت أميركا في حرب مع ذاتها”، كما أنّ “مخزون الذخائر في المستودعات الأميركية يُستنزف بصورة مقلقة، وخصوصاً ذخائر المدفعية” (يومية “وول ستريت جورنال”، 29 آب /أغسطس 2022).
إضافة إلى ذ4استنزاف المستودعات الأميركية، تواجه المؤسسة العسكرية تحديات جديدة في آليات ونظم التوريد ودوران مصانع الأسلحة التي تتطلب زمناً ليس متوفراً الآن لإعادة تأهيل المعدات وتشغيلها، “في ظل تبدل المواصفات المطلوبة راهناً من البنتاغون” (المصدر أعلاه).
ويمضي القادة العسكريون في الإشارة إلى معضلة برزت مؤخراً في البحر الأيوني، جنوبي إيطاليا، حين اضطرت حاملة الطائرات “ترومان” إلى نقل بعض أسلحتها وذخائرها إلى متن حاملة الطائرات البديلة “يو أس أس بوش”، التي كانت ستتخذ مواقعها في تلك المياه.
من بين التحديات العسكرية أيضاً ما يخلّفه الاستهلاك المتواصل من تآكل المعدات والأسلحة، بسبب ظروف الحرب والمناورات العسكرية. وأظهر تحقيق أجرته البنتاغون قبل عامين في حادثة غرق عربة برمائية وهلاك طاقمها في مياه مدينة سان دييغو أن السبب هو عدم الالتزام ببرنامج الصيانة المطلوبة، نظراً إلى طلب عسكري ملحّ لدخولها الخدمة.
للإضاءة على إفراط المؤسسة العسكرية في التمدد عبر العالم، تشير بيانات البنتاغون الخاصة بنشر حاملات الطائرات للمرابطة في مناطق معينة إلى معادلة 8:8:8، أي خلال خدمة مدتها سنتان، تحتاج الحاملة إلى 8 أشهر من العمل، و 8 أشهر لأعمال الصيانة وتحديث المعدات، و8 أشهر من برامج التدريب لطواقمها. وينطبق الأمر عينه على القوات والأسلحة البرمائية، ومنها التي تستضيف على متنها أحدث المقاتلات الأميركية من طراز “أف-35”.
إذاً، تصطدم الخطط العسكرية والسياسية الطموحة بقيود الواقع الميداني. مثلاً، مع غروب شهر آب/أغسطس الماضي، تم رصد مرابطة 3 حاملات طائرات أميركية في المياه الآسيوية قرب الصين: “يو أس أس ترومان” و “يو أس أس بوش” اللتان ترابطان ضمن مهام الأسطول السادس، فيما ترابط حاملة الطائرات “يو أس أس رونالد ريغان” قرب مياه اليابان. كما أنّ الحاملة “ترومان” في طريق عودتها إلى قاعدتها الأم لأعمال الصيانة والتحديث في مدينة نورفولك في ولاية فرجينيا، ولن تستطيع المشاركة لنحو عام كامل.
تنشر الولايات المتحدة مجموعتين من القوات والمعدات البرمائية في بحر الصين الجنوبي: “يو أس أس أميركا” و “يو أس أس تريبولي” اللتان تحمل كل منها نحو 20 مقاتلة حديثة من طراز “أف-35”.
وفي حال اشتعال ساحة حرب جديدة، في الشرق الأوسط أو الصين أو أوكرانيا، سيواجه سلاح البحرية الأميركي تحديات جديدة تقيّد قيامه بنشر حاملات نووية للطائرات في وقت متزامن في الساحات المشار إليها.
كما تواجه المؤسسة العسكرية الأميركية تحدياً في تجنيد منتسبين جدد إلى صفوفها، إذ عبّر نحو 9% من البالغين عن رغبتهم الانضمام للقوات المسلحة، وهي “أدنى نسبة منذ حرب فيتنام عام 1973″، فضلاً عن تأهل المنتسبين إلى برامج التدريب القاسية، والذين لا يزيدون عن نسبة 24% من مجموع العينة.
استعراض الخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة في حال نشوب حرب حقيقية تشارك فيها مباشرة يؤدي إلى جملة حقائق.
للمرة الأولى، تتراجع خطورة الحرب في الشرق الأوسط، بحسب أولويات البنتاغون، يعززها انتشار واسع لقوات أميركية في المنطقة، فضلاً عن توفر عدد كافٍ من القواعد والمطارات إن دعت الحاجة.
أما في حال نشوب مواجهة عسكرية مع إيران، فالأمر يتطلب إجراء تعديلات كبيرة في وضعية القوات الأميركية، أبرزها الأعداد المحدودة للقوات المتوفرة، وإعادة تموضع القوات والأسلحة البحرية في المنطقة، وضمان ملاحة السفن الحربية وحاملات الطائرات في قناة السويس، وما قد يترتب عليها من انعكاسات إقليمية، أو سحب بعض القوات البرمائية من المحيط الهادئ باتجاه بحر العرب.
ذروة التحديات بالنسبة للبنتاغون البنتاغون في هذا الصّدد تكمن في نشوب حرب مع الصين، والتي سيكون عنوانها الأبرز القطع البحرية المتوفرة والمنتشرة قرب بحر الصين الجنوبي، والاستعانة بقوات إضافية من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، استراليا واليابان، لمواجهة القوات الصينية في الجزر الاصطناعية المنتشرة في المنطقة، وإشغال الغواصات الصينية بمناورات معينة لحرمانها من استهداف حاملات الطائرات الأميركية بشكل خاص.
اتساع رقعة انتشار القوات والموارد العسكرية الأميركية كشف حدود القوة والتهديد بها، وخصوصاً عند الأخذ بعين الاعتبار وضعية القوات الأميركية المختلفة منذ نهاية حرب فيتنام، باعتمادها كلياً على نظام التطوع، وخشية القادة السياسيين من تفعيل نظام التجنيد الإجباري في أزمنة تستدعي رفع مستوى رفاهية الشعب الأميركي، وليس انخراطه في حروب لامتناهية.
هذا لا يعني، بالمقابل، الاستخفاف بالآلة العسكرية الضخمة وقدراتها التدميرية الهائلة، لكن القوة العسكرية الصرفة لا تحسم صراعاً أو اشتباكاً بمفردها، وخصوصاً في ظل تردد القادة الأميركيين، سياسيين وعسكريين، في نشر قوات برية بأعداد كافية في ساحات المواجهة المعنية، وفي الأذهان الانسحاب المذلّ للقوات الأميركية من أفغانستان.