موسكو | مع انسحاب القوات المسلّحة الروسية من محيط مدينتَي كييف وتشيرنيغوف في نيسان الماضي، أصابت النشوة النظام الأوكراني وحلفاءه الغربيين، الذين بالغوا في الاحتفال بذلك التطوّر، وبدأوا بالتنظير لإمكانية الاحتفال بـ«عيد النصر» على مشارف موسكو، بمزيد من الضغط الإضافي، إلّا أن وقائع الميدان في شهر أيار جاءت لتُبطل مفعول تلك النشوة، وتعيد إمالة الكفّة لصالح موسكو. تدريجياً، بدأت القوات الأوكرانية تفقد عناصر قوّتها التي سمحت لها بتسجيل بعض النقاط خلال الشطر الأوّل من الحرب، حيث أتاحت لها خبرتها التي اكتسبتها من ثماني سنوات من المواجهات في إقليم دونباس، التكيّف المرحلي في وجه خصم يتفوّق عليها تقنياً ونوعياً. كما أن ضخّ السلاح الغربي، بكمّيات هائلة، إلى كييف، أدّى، في المراحل الأولى من العملية، إلى إلحاق خسائر فادحة بالقوات الروسية، خصوصاً عندما وضعت موسكو هدفاً لها الوصول إلى العاصمة كييف بأيّ ثمن، أو في الحدّ الأدنى إطباق الحصار عليها حتى إرغام سلطاتها على الاستسلام غير المشروط. لكنّ «الخطّة أ» لم تؤتِ أُكلها، ما جعل القيادة الروسية تتّجه إلى تبنّي «الخطّة ب»، والتي بنت على ثغرات الاستراتيجية الأصلية، وتحاشت الرهان على المسار التفاوضي، قبل إنجاز تحوّل وازن في الميدان.
إثر ذلك، بدأت التكتيكات الروسية تثبت نجاعتها، سواءً في إفشال الهجوم المضادّ للقوات الأوكرانية على مقاطعة خيرسون، أو خلال العملية المستمرّة لانتزاع كامل مساحة دونباس. هذه التكتيكات كانت مدروسة، وتمّ التحضير لها بجدّية أكبر، ورُصدت من أجلها الإمكانات المطلوبة، فكانت نتائجها مُرضية، وعلى رغم أنها ليست حاسمة إلى الآن، إلّا أنها ثابتة و لا تُسجّل إخفاقات. كذلك، لا ينكر المتابعون، حتى الغربيون منهم، التفوّق التقني العسكري الروسي، مع زيادة الاعتماد على سلاح الجوّ التكتيكي العملياتي، وعلى القوّة الصاروخية الدقيقة والبعيدة المدى، والتي ألحقت خسائر فادحة بالأوكران، بلغت باعتراف الرئيس فولوديمير زيلينسكي نفسه، مئة قتيل وخمسمائة جريح يومياً، وهي خسائر لا طاقة لكييف ولا للغرب على تعويضها عملياً. في المقلب الآخر، تشهد الجبهات كافّة حالة تراجع وترهّل في قدرة الأركان الأوكرانية على الإمساك بزمام الأمور أو القيام بمبادرات قتالية وازنة قادرة على تغيير المشهد، فضلاً عن مؤشّرات تَناقض ما بين القيادة السياسية التي تطلب من القوّات المسلّحة ما يفوق طاقتها، واضعةً كلّ رهاناتها على سلّة الدعم الغربي، وما بين الجيش غير القادر على استيعاب أشكال الدعم في تشكيلاته القتالية المشتّتة، والقاصر عن الوصول إلى جميع المساعدات جرّاء استهداف قوافلها من قِبَل القوات الروسية.
وعلى رغم الدعم الغربي المتزايد كمّاً ونوعاً، إلّا أن أوكرانيا لم تتمكّن من وقف التحوّل المُسجَّل لصالح روسيا على المحاور كافّة. وفي هذا الإطار، تُسجّل وسائل الدفاع الجوّي، الأوكرانية والغربية على السواء، قصوراً في مواجهة سلاح الجوّ الروسي، وخصوصاً مسيّراته التي بدأ استخدامُها بإتقان على نطاق واسع. وبحسب المصادر الميدانية المطّلعة، فإن هذا النجاح مردّه إلى تمكّن القوات الروسية، في المرحلة الأولى من العملية، من القضاء على معظم طواقم تشغيل سلاح المُسيّرات الأوكراني ذات الخبرة العملياتية، ما يصعّب على كييف والغرب ترميمه في الوقت القياسي المطلوب. مع ذلك، فإن المساعدات الغربية، بما يشمل المعلومات الاستخبارية العسكرية وصور الأقمار الصناعية والمنظومات الرادارية لجيوش «حلف شمال الأطلسي» في محيط شعاع مسرح العمليات، أسهمت على نحو أو آخر في منع الانهيار الدراماتيكي للقوات الأوكرانية، وعوّضت نسبياً الخلل التقني الذي تعانيه، وحقّقت نوعاً من التوازن المرحلي، أتاح لكييف الاحتفاظ المؤقّت بمواقع تموضعها. من ناحية أخرى، تستدرك القوات الروسية جملة من الأخطاء والنواقص، التي ثبُت أنها دخلت الحرب من دون معالجتها. فعلى سبيل المثال، تمكّنت هذه القوات، بعد إخضاع طواقم تشغيل الدبابات والمدرّعات لبرامج تأهيل، من تقليل خسائرها البشرية إلى حدّ كبير. كما أنها بدأت بتحريك قوات التعبئة والاحتياط على نحو مدروس بشكل أكبر، من دون استدعائها بكاملها (يدور الحديث عن أكثر من 15 كتيبة روسية و«شعبية» من كتائب التعبئة موزّعة على الجبهات كافة). في المقابل، بدأت كييف تعاني نقصاً في العنصر البشري المقاتل، في ظلّ تراجع قدرتها على استدعاء قوات الاحتياط، إضافة إلى افتقار القوات المسلّحة إلى الضبّاط الأكفّاء، ولا سيما قيادات الصفَّين الثاني والثالث.
وفي المعطيات الميدانية، يسجّل مسرح العمليات في شمال شرقي أوكرانيا تقدّماً مستمرّاً، بطيئاً وثابتاً، للقوات الروسية على محاور ضواحي مقاطعة خاركوف، التي يجري الالتفاف عليها من ناحية الشرق، والتقدّم بالتدريج باتجاه الجنوب، تمهيداً للسيطرة على مدينة تشوغويف، التي يشكّل تموضع القوات الأوكرانية فيها عنصر إقلاق للجنود الروس المرابطين في منطقة إيزيوم جنوب خاركوف، كما أنه يؤخّر تقدّمهم باتجاه الجنوب والجنوب الغربي والجنوب الشرقي. وعليه، فإن تدمير حامية تشوغويف الأوكرانية يؤمّن الحماية للجناح الأيمن من تشكيلات القوات الروسية المتقدّمة في معركة دونباس. ومن غير المستبعد، والحال هذه، اندلاع مواجهات شرسة في محيط تشوغويف، توازياً مع تكثيف الضربات المدفعية الثقيلة في إيزيوم، والتمهيد المدفعي في سلافينسك. أمّا في سفيتاغورسك، التي تُعدّ منطقة رمادية تسمح بتداخل متقطّع لقوات الطرفَين في القطاع الأوسط من دونباس، فلا تزال القوات الأوكرانية تسيطر على مرتفعات تقع على الضفة اليمنى لنهر سفيرسكي دونيتس، ما يجعل القوّات الروسية تلجأ إلى مسارات بديلة للتقدّم على محاور سفيتاغورسك. وفي محيط باباسنايا، دخلت القوات الروسية والتشكيلات الحليفة لها مدينة نوفولوغانسك، وشغلت القسم الجنوبي للمدينة، إضافة إلى سيطرتها بالنيران على القسم الغربي منها، فيما يُتوقّع سقوطها بالكامل خلال ساعات. وفي ظلّ هذا التسخين على جبهات دونباس الشمالية والوسطى والجنوبية الغربية، تتّجه الأنظار إلى ليسيتشانسك وسيفيرودونيتسك، المرتقب حسمهما أيضاً، لتصبح جميع مناطق لوغانسك بأيدي الروس، ويضحي الاستيلاء الكامل على دونباس في متناول الأيدي.