إعصار فلسطيني جديد يصدِّع الكيان
غالب قنديل
مثل الأساطير القديمة تنبعث النيران وتنهض ألسنة اللهب من شعلة فلسطين، وكلّما ظنّ القادة الصهاينة أنهم تمكّنوا من إخمادها واحتواء ارتدادها توهّجت من قلب فلسطين، ونشرت الرعب، وكشفت العجز الصهيوني في دوامة استحالة إخماد ثورة الغضب الفلسطيني الممتدّة بتعاقب الأجيال وتواصل الخبرات المتراكمة عبر الزمن.
كلّما تأملنا الحدث نَحَار في التسمية والاصطلاح، فجميع الاصطلاحات لا تختصر يقظة فلسطين واختلاجاتها الثورية بتعاقب الأجيال الفتية في معجن الملاحم والبطولات، ومع كلّ موجة فدائية ابتكارات وابداعات خلق جديدة، تستكمل ملحمة أصيلة، تنأى عن الاستعراض و”الفشخرة” بفصاحة الانتماء وببلاغة الوقائع العنيدة.
يقينا، إن اختفاء واجهات ومنابر العقود الماضية وانحلالها، كان من نعم التغييرات الدموية الظرفية على طريقة الضارة النافعة، وبعض النضج المكتسب، تشي به حمية نخب متواضعة وأصيلة في معدنها الثوري، واعتناقها لحلم التحرير كمشروع سياسي ونضالي، نجدها تعفّ عن الادّعاء والزعم، لتحصر مساهماتها في الحثّ على التناغم مع الظواهر الثورية الواعدة، والاكتفاء بتشجيعها والدعوة لتعميمها.
ما تناقلته وسائل الإعلام العبرية في وصف مجريات العملية وحصادها وتردداتها، يغني عن أي بيان أو تقرير، ويكشف هشاشة القاعدة الاستعمارية الغاصبة لفلسطين أمام إرادة المقاومة والتحرّر. ويكفى في سردية الحدث تمكّن الشاب الفلسطيني من الوصول إلى أكثر الشوارع إزدحاماً في تل أبيب: “ديزينغوف”، مُشهرا مسدسه بوجه روّاد البار الأكثر شهرة، والحصيلة قَتَلَ اثنين، من الصهاينة وأصاب 15 آخرين، بينهم خمسة بحال الخطر.
الحصاد الإجمالي في قلب الكيان: شارع مرتعب، وآلة عسكرية ضخمة مدجّجة في صدمة عجز وتضعضع أمام مهاجم فلسطيني، حقّق انتصارا واختفى، متواريا عن الأنظار، وعن العسكر المستنفرين، ملحقا هزيمة مشينة بأحدث الجيوش تجهيزا، وأكثرها تدريبا، بينما أخذ الرأي العام الصهيوني الى خيبة وصدمة عميقة بسقوط خرافات التفوّق والقدرة الطاغية.
حواجز التفتيش انتشرت كالفطر، وتفشّى جنود الاحتلال في الطرق والممرات في هستيريا البحث اليائس عن المنفّذ، الذي نجح في التخفّي والابتعاد عن مسرح، ظلت فيه آثار الدماء، وبات يعجّ بالجند المدججين حتى الأسنان، وعيونهم شاخصة، تنقّب عن شبهة أو التباس، بينما انسلّ الفدائي وسط الجموع واختفى، تاركا خلفه الحيرة وعار العجز والخبل للمؤسسة الصهيونية برمّتها.
فدائي واحد أوقع كل تلك الخسائر، وخلّف تلك التداعيات والنتائج، وصفع الجيش الذي عُدَّ يوما من أكثر جيوش العالم تدريبا، والأحدث تجهيزا على الإطلاق. ومن مساخر الزمان أن تكون مستودعات جيوش العراضات العربية متخمة بأسلحة لا يستهان بكمّها ونوعها، بينما الحكومات خانعة بفعل ارتهان وخيانة، تطمس ذكر فلسطين وتكتمه، تلافيا للحرج والفضيحة المشينة في بؤر الخيانة والردّة الموحلة، فأي عار ذاك أمام نعل فدائي سطّر إعجازه البطولي واستدار بعيدا، حيث لا يزال العدو مهزوما، يلهث في أثره مرتعبا خائبا مشلولا في ذهول وخبل الصدمة والمفاجأة.