العمليات الفدائية المنفردة: حيوية الشعب ومأزق الفصائل
غالب قنديل
سمّاهم العدو بالذئاب المنفردة، وخجلت الفصائل جميعها من ابتذال ادعاء الفضل في تعبئتهم وتأطيرهم والتخطيط لعملياتهم، وهي قاعدة في رغد المقرات، تدبّج بيانات التذكير بوجودها في احتفالات المواسم والمناسبات الوطنية، وتذكارات النكبات والهزائم، هي غالبا قيادات وجماعات تأنس لرغد التنفّع البيروقراطي تحت يافطات التحرير الموعود منذ عقود، ولا يتنازل “نفاريش” البيروقراطية الفلسطينية عن عاداتهم وطقوسهم أينما كانوا في المهاجر البعيدة أو القريبة من فلسطين السليبة اليتيمة.
هم الشهادة المتجددة في معموديات بطولة مضرّجة بالدماء، والبرهان الدامغ على أن فلسطين لا تموت ولا تستكين، وكلّما توهّم العدو أنه كتم سيرتها وأخمد شعلتها تتوهج مشعّة مشرقة من جديد بسواعد فتيان وفتيات الأرض المحتلة الأبطال.
القيادات التي أسكرتها الامتيازات ولوّثها المال باتت مغشيا عليها، غائبة عن الوعي في رفاهية المكاتب والمقرات، بالكاد تستذكر مناسبات باتت بلا نكهة أو معنى، تجترّ بيانات من أرشيفها المنسي، وتستعين بغابر أمجاد وبطولات طواها النسيان مع تقادم الزمن، والبطولة إنما هي ألق التحدي الحاضر في معموديات الدم والنار وروعة الإنجاز واقتحام المستحيل الراهن بتدبير وشجاعة الأبطال.
اعترفت دوائر العدو القيادية وأقرّت بقسوة التحدي، الذي مثّلته عملية الفدائي البطل أبو القيعان، الذي كان أسيرا لدى العدو الغاصب، وهو خاضع لمراقبة الأجهزة الاستخباراتية الصهيونية، التي سطّرت في سجلاتها، كما كشفت الصحاف الصهيونية، أن هذا الشاب الفلسطيني يميل الى الانخراط في النضال المسلّح، وهو مغزى دمغة الإرهاب اللصيقة بالعديد من الأسرى والمحرّرين الموضوعين تحت رقابة مخابرات العدو.
ليس غياب التنظيم إنجازا للعدو، بل هو عيب العمل الوطني الفلسطيني وتقصيره وقصوره الخطير، ولو كانت في الساحة تنظيمات حيّة تمتلك الحدّ الأدنى من النخوة والجدارة لاستطاعت أن تحشد قدرات كفاحية هائلة، وتستقطب رجالا ونساء تغلي أرواحهم بالشوق الى تحدي العدو الغاصب وكسر عنجهيته.
إن نهوض أمل التحرير من خمود الاستكانة ومن وخم التّبقرط ووحول الاستسلام يفترض ثورة ثقافية شاملة، تحيي فكرة تحرير فلسطين، وتردّ لها الاعتبار خارج منصات الارتزاق والتنفّع، وتستعيد تقاليد التصوّف والالتزام الوطني النقيّ، التي عرفناها في بدايات المقاومة الفلسطينية والعمل الفدائي قبل اللعنة النفطية ووبائها البيروقراطي، الذي تفشّى كالهواء الأصفر، وأفسد كل شيء.
بشارة بئر السبع قابلة للتكرار بقوة العدوى الثورية في ربوع فلسطين، التي تضجّ بشباب يغلون بالثورة والرفض، الذي يحفزهم على إبداع الوسائل المناسبة لمقاومة الكيان الغاصب. وهذا مسار سيحفر مجرى جديدا ومسارا نوعيا لتطوّر النضال الوطني الفلسطيني.
يقين التحوّل منبثق من سنن الصراع وشواهد التاريخ، وفي زمنٍ آت لا محالة سوف نشهد انبثاق أشكال من التنظيم والشبكات الفدائية المقاتلة في الداخل الفلسطيني. ونداؤنا إلى الفصائل أن دعوها تشقّ طريقها مثل زهرة برّية في الأرض السليبة، ولا تفسدوا طهارتها ونموّها الطبيعي بتدخلاتكم وبأساليب عمل لم تحصد سوى الفشل وتلاحق الخيبات، وتكفي منكم بيانات الإشادة والتنويه وتمجيد الأبطال بعد استشهادهم أو اعتقالهم.
إن اعترافات قادة العدو بعد العملية البطولية تشير الى توقّع انبعاث تيار غضب ورفض مقاوم في صفوف شباب فلسطين، ينذر بتحريك هجمات متلاحقة، وتوليد قوة استنزاف للعدو، والأهم فيها أنها بلا يافطات ولا عناوين غير فلسطين، وهو ما يضاعف من ارتعاب العدو وارتعاده.
سوف يصعّد العدو من حملات القمع والتنكيل والعمليات الاستباقية لاجتثاث جذوة الرفض، لكنّ سنّة الحياة تفرض اشتداد جذوة الثورة والمقاومة، واتساع نطاق العمليات، التي نأمل من فصائل الشتات مؤازرتها عن بعد، وإن تسنّى لها اتصال بأبطال الداخل أن تسألهم عن وجهة المساندة المجدية، بدون لوثة استزلام، تنقل فيروسات مدمّرة، سوف تفسد طهارة الجنين الثوريّ، بل تجهضه قبل اكتمال الملامح.