تقارير مراكز الدراساتتقارير ووثائق
المسارات المحتملة لتفادي حرب مباشرة بين روسيا والناتو د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
(ينشر بالتعاون مع “الميادين”)
الدفع باتجاه التوتر والتلويح بالخيار العسكري هو السمة الأبرز لإدارة الأزمات بالنسبة إلى الولايات المتحدة، والمسألة الأوكرانية ليست استثناء لعقيدة متجذرة في “تفوّق أميركا على العالم”، بصرف النظر عن الحقائق التاريخية والوقائع الجيوسياسية، التي تتحكم بخيارات أوكرانيا “التي كانت موحّدة”، وباتت تنهشها أطماع الغرب لاستغلال موقعها كخاصرة رخوة لتقويض روسيا الصاعدة، ومنصّة انطلاق أيضاً في الصراع الأميركي الأوسع ضد الصين.
الإجابة على كيفية نظر النُخب السياسية والفكرية، وحتى العسكرية الأميركية، إلى تبلور الصراع الأميركي-الروسي وأوكرانيا في محوره ليست بالأمر العسير. ويمكن الاستدلال على شبه إجماع بين تلك المراكز المؤثّرة في صنع القرار السياسي، والتي تنسب نقطة البداية إلى عهد الرئيس كلينتون، وبعده صعود الرئيس جورج بوش الإبن، وتبنّيه سياسة إذكاء العداء لروسيا، ثم سعيه لاستمالة رئيس الوزراء الأوكراني آنذاك، فيكتور يانكوفيتش، بضمّ أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، فرفض الأخير، “وجرت إطاحة يانكوفيتش في مظاهرات طالبت بعزله بعد تعليق حكومته توقيع الشراكة مع الاتحاد الأوروبي”.
سياسة العداء الأميركي لروسيا صعدت منذئذ إلى مرحلة حصارها التي نشهدها حالياً، بنى عليها الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن في قمة لحلف “الناتو” في عام 2008، بإدراج انضمام جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف، واندلاع أزمة روسية مع جورجيا في العام نفسه، وأخرى مع أوكرانيا في عام 2014.
انضمام أوكرانيا إلى “الناتو” كان دوماً “خطاً أحمر” بالنسبة إلى روسيا، وأيّدها في ذلك ابرز خبراء الاستراتيجية الأميركية في الشؤون الروسية جورج كينان وهنري كيسنجر. الأخير قالها بصريح العبارة :” أوكرانيا كانت جزءاً من روسيا منذ عقود. لا يجب على أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو، بل عليها انتهاج مسار (حيادي) قريب من النموذج الفنلندي”، (مقال لكيسنجر بعنوان “كيف ستنتهي أزمة أوكرانيا”، صحيفة “واشنطن بوست”، 6 آذار/مارس 2014).
منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي ومسألة التعامل مع روسيا؛ مهاجمتها أو احتوائها أو إضعافها عبر “ثورات ملوّنة” ونشر الفوضى، كانت أبرز علامات المحاور داخل مراكز القوى الأميركية، وامتداداً إلى حلفائها الأوروبيين، على قاعدة “العداء الهستيري” أو “روسي فوبيا”، تتضمّن وثيقة سياسية قدمتها إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان لنظيره السوفياتي ميخائيل غورباشوف، تعهّدت فيها بعدم توسّع حلف الناتو شرقاً مقابل موافقة الأخير على إعادة توحيد ألمانيا، بتاريخ 6 آذار/مارس 1991 (صحيفة “دير شبيغل” الألمانية، 27 شباط/فبراير 2022)
استقطب الجدل وتبادل الآراء بشأن روسيا بعضاً من أهم خبراء السياسة والاستراتيجية، من بينهم الديبلوماسي الأسبق جورج كينان، صاحب نظرية “الاحتواء” الشهيرة بين القوتين العظميين إبان الحرب الباردة. وفي خلفية النقاش “الاستراتيجي” آنذاك مسألتا “تمدد الناتو شرقاً واحتواء الصين” أو مواجهتها.
كينان، السياسي المخضرم، حافظ على اتّزان نظريته الشهيرة، احتواء روسيا، معتبراً توسّع رقعة الناتو شرقاً “سيؤسّس لحرب باردة جديدة”، واستطرد متهكماً على صنّاع القرار في واشنطن بأن “توسيع (الناتو) ناجم أصلاً عن قرار متسرّع من مجلس شيوخ لا يفقه شيئاً في السياسة الخارجية”، (مقابلة نشرتها دورية “فورين أفيرز”، 2 أيار/مايو 1998).
النخب السياسية والفكرية الأميركية، رغم تواضع أعدادها ونفوذها، تشاطرت في رؤيتها “الواقعية” للقضايا العالمية من مخاطر تمدد حلف “الناتو” شرقاً وما سيسفر عنه من مواجهات حتمية، وضمت بعضاً من أهم المسؤولين الأميركيين والأساتذة الجامعيين، منهم: استاذ العلوم السياسية المرموق جون ميرشايمر، وزيري الدفاع السابقان ويليام بيري وروبرت غيتس، واستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا جيفري ساكس، والسفير الأميركي الأسبق لدى موسكو، جاك ماتلوك، والقائمة تطول.
اللافت في تلك المجموعة من الآراء تصرح مدير وكالة الاستخبارات المركزية بيل بيرنز في العام 2008، من موقعه كسفير لبلاده في موسكو، قائلاً: “دخول أوكرانيا إلى حلف الناتو يشكّل ضوءاً شديد الإشعاع بين الخطوط الحمر بالنسبة إلى روسيا، وتحدّياً مباشراً للمصالح الروسية”.
راهناً، وبعد اتضاح توجّه حلف “الناتو” وقطبه المحوري الولايات المتحدة إلى تسعير الأزمة الأوكرانية واستغلال تصعيدها لاستعادة منطق الاستقطاب والحرب “الباردة”، وإحيائه معادلة الردع النووي، وإعلاء قرار “مجلس شيوخ لا يفقه في السياسة الخارجية”، تبدو البشرية جمعاء أمام مجموعة خيارات أحلاها مرّ، مهّد لها أحد أبرز أقطاب المواجهة العسكرية مع روسيا والمحلل الاستراتيجي، جورج فريدمان، جازماً أن روسيا، مع “انهيار الاتحاد السوفياتي، فقدت سيطرتها على المناطق الحدودية الغربية التي شكّلت القاعدة الصلبة لأمنها لمئات السنين. بيلاروسيا وأوكرانيا تشكّلان قلب المخاوف الروسية”، (نشرة “جيو بوليتكال فيوتشرز”، 7 كانون الثاني/ديسمبر 2021).
سير العمليات العسكرية، من وجهة النظر الأميركية، كان ينبغي أن يقود إلى اندلاع “حرب شوارع” مع القوات الروسية. ولهذا السبب، سرّعت واشنطن تسليم أوكرانيا أسلحة “خفيفة” تصلح لحرب العصابات، بيد أنّ الرد المقابل باعتماده سياسة القضم التدريجي مع إطباق حصاره على المدن الكبرى أجّل الفرحة الأميركية والغربية التي لا تزال الخيار الأول في الأجندة العامة.
لكن بدأنا نلمس تبلور بعض الأصوات العقلانية تطالب الإدارة ودوائر صنع القرار بالتضحية باستقلال أوكرانيا والتوصّل إلى حل يواكب الطلب الروسي بحيادية أوكرانيا، أحدثها نشرته شبكة “أم أس أن بي سي” الأميركية للتلفزة، محذرة من استمرار “رفض الولايات المتحدة إعادة النظر بوضع أوكرانيا في حلف (الناتو) كما هدّد بوتين بشن حرب. الخبراء يقولون إنّ ذلك (التوجه) كان غلطة كبرى”.
وأوضحت أن ما كانت ترمي إليه واشنطن من فرض اسلوبها بـ “ردع ديبلوماسي” على الرئيس الروسي يشير إلى أنّ “الولايات المتحدة استنفذت ترسانتها الديبلوماسية، ولم يعد بوسعها منع اندلاع الحرب ” (مقال في موقع الشبكة، 4 آذار/مارس 2022).
وتنبغي الإشارة إلى تجدّد نداءات إعادة الاعتبار إلى منطق أقطاب السياسة المشار إليهم أعلاه، في التحذير من انعكاسات تمدّد رقعة حلف الناتو لتضمّ أوكرانيا، الأمر الذي لم يكن متوقعاً، وبهذه السرعة، بعد نحو أسبوع من بدء العملية العسكرية الروسية. إذاً، نحن أمام لوحة بدأت تضغط على دوائر صنع القرار بجرأة ومنطق للتخلّي عن “خطأ” سياسة تمدد الحلف التي تهدد العالم بنكبة حقيقية، بحسب تعبير شبكة التلفزة الأميركية.
وباء عليه، باستطاعتنا القول إنّ “أزمة أوكرانيا”، بمعزل عن التصعيد العسكري الأميركي والغربي، بدأ يُنظر إليها من زاوية توازي المطالب الروسيّة: تسليم النخب الأميركية بتقسيم أوكرانيا، شرقها تحت النفوذ الروسي وغربها حليف لأميركا، واتباع سياسة الحياد.
أما المطلب الروسي الأوسع، إخراج منظومات الأسلحة والصواريخ النووية من أوروبا، لم يدخل دائرة الجدل العلني، بل جاء تلميحاً بأنّ القضايا الكبرى ستكون مادة للقاء قمة مفترض بين الرئيسين الأميركي والروسي، بحسب السياسيين والنخب الأميركية.
جرى تداول عدد من السيناريوهات المحتملة في أوساط النخب السياسية والفكرية لما قد يؤدي إليه الصراع الراهن بالاستناد إلى تدفق السلاح الغربي إلى بعض مناطق أوكرانيا، أبرزها التقسيم الواقعي لمنطقتين متضادتين في التوجه والانتماء بفعل تحقيق روسيا “بعض” مطالبها، ومصير العاصمة كييف يقرره سير العمليات الراهن، إذ تأمل واشنطن نجاح خيارها في إدامة العمليات العسكرية، وجرّ روسيا إلى خوض حرب عصابات قد تمتدّ لمدة طويلة، بعد اعلان حكومة منفى إذا نجى زيلنسكي وانسحب الى دولة مجاورة يتوقع أن تكون بولندا.
وقد يحصل نوع من التراجع من قبل واشنطن، تحت ضغط الإنجازات الميدانية الروسية، إلى طرح صيغة مؤداها التوصل إلى توقيع “اتفاقية سلام” بين موسكو وكييف، بحضور مكثف لواشنطن، وما يعنيه ضمناً تسليم الأخيرة بضم جمهوريتي إقليم الدونباس إلى روسيا، وتعهّد كييف بعدم الانضمام إلى حلف “الناتو”.
وليس مستبعداً التسليم بمطلب روسيا بعدم تسليح أوكرانيا باسلحة ومعدات ثقيلة ومنظومات صواريخ مضادة، رغم أن فرض وقف إطلاق النار في المرحلة الحالية ليس في مصلحة القوتين العظميين، لكن ذلك لا يمنع التوصل إلى ترتيبات مؤقتة لدواعٍ إنسانية.
أما الجانب الرغبوي الذي تروّجه واشنطن، فيتمحور حول حدوث انقلاب في موسكو يطيح الرئيس بوتين تحت غطاء تنامي التظاهرات الروسية المناوئة للحرب، والتودّد إلى بعض أفراد القطاعات العسكرية، وخصوصاً من قبل المجنّدين إلزامياً، بتعطيل معداتها العسكرية.
لكن حقائق الواقع الصارخة تدحض التمنيات وأحلام اليقظة عند الأخذ بعين الاعتبار أن موسكو كانت تعدّ لعملياتها العسكرية منذ زمن، وطبّقت عدداً من الإجراءات والترتيبات في وحداتها العسكرية واسلحتها لتناسب المهام المطلوبة، وتصاعد شعبية الرئيس الروسي داخل الأراضي الروسية، وكذلك في جمهوريتي إقليم الدونباس.
في الوقائع الصلبة أيضاً، نشهد تداول “مخارج” متعددة للأزمة من قبل مجموعة الخبراء والسياسيين والديبلوماسيين السابقين، أنصار الواقعية السياسية، مؤكدين أنّ حلف الناتو “ليس من مصلحته خوض حرب مع روسيا بسبب منطقة دونباس الأوكرانية، وسيدفع الأوكرانيويون ثمناً باهظاً لسياسة تهوّر الولايات المتحدة وتغزّلها بأوكرانيا كعضو مستقبلي في الناتو من دون أي نية حقيقية للالتزام بالدفاع عنها”.
عزّزت تلك النداءات الواقعية يومية “فورين بوليسي”، المقرّبة من البيت الأبيض، في تقرير قبل بضعة ايام، بالجزم قائلة “لا أحد، لا جو بايدن أو فلاديمير بوتين، يبدي قدراً من معرفة آفاق نهاية” الأزمة الراهنة المستمرة في التصاعد والاستقطاب، الأمر الذي يفتح كوة جديدة في باب “التفاوض” والبدء ببلورة تفاهمات بين واشنطن وموسكو.
من المفيد استعادة تحذير النخب الفكرية الأميركية بشكل خاص بشأن أوكرانيا، منذ بدء “غزل البيت الأبيض” مع أوكرانيا بعد نجاح ثورتها الملوّنة في العام 2014، أبرزهم الاستراتيجي والأستاذ الجامعي جون ميرشايمر في ندوة في العام 2015، قائلاً: “الغرب يقود أوكرانيا إلى مسار اللهو واللعب، وإلى الهلاك، والنتيجة تدمير أوكرانيا. إن ما نفعله الآن، في الحقيقة، يشجّع تلك النتيجة”.
الإجابة على كيفية نظر النُخب السياسية والفكرية، وحتى العسكرية الأميركية، إلى تبلور الصراع الأميركي-الروسي وأوكرانيا في محوره ليست بالأمر العسير. ويمكن الاستدلال على شبه إجماع بين تلك المراكز المؤثّرة في صنع القرار السياسي، والتي تنسب نقطة البداية إلى عهد الرئيس كلينتون، وبعده صعود الرئيس جورج بوش الإبن، وتبنّيه سياسة إذكاء العداء لروسيا، ثم سعيه لاستمالة رئيس الوزراء الأوكراني آنذاك، فيكتور يانكوفيتش، بضمّ أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، فرفض الأخير، “وجرت إطاحة يانكوفيتش في مظاهرات طالبت بعزله بعد تعليق حكومته توقيع الشراكة مع الاتحاد الأوروبي”.
سياسة العداء الأميركي لروسيا صعدت منذئذ إلى مرحلة حصارها التي نشهدها حالياً، بنى عليها الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن في قمة لحلف “الناتو” في عام 2008، بإدراج انضمام جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف، واندلاع أزمة روسية مع جورجيا في العام نفسه، وأخرى مع أوكرانيا في عام 2014.
انضمام أوكرانيا إلى “الناتو” كان دوماً “خطاً أحمر” بالنسبة إلى روسيا، وأيّدها في ذلك ابرز خبراء الاستراتيجية الأميركية في الشؤون الروسية جورج كينان وهنري كيسنجر. الأخير قالها بصريح العبارة :” أوكرانيا كانت جزءاً من روسيا منذ عقود. لا يجب على أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو، بل عليها انتهاج مسار (حيادي) قريب من النموذج الفنلندي”، (مقال لكيسنجر بعنوان “كيف ستنتهي أزمة أوكرانيا”، صحيفة “واشنطن بوست”، 6 آذار/مارس 2014).
منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي ومسألة التعامل مع روسيا؛ مهاجمتها أو احتوائها أو إضعافها عبر “ثورات ملوّنة” ونشر الفوضى، كانت أبرز علامات المحاور داخل مراكز القوى الأميركية، وامتداداً إلى حلفائها الأوروبيين، على قاعدة “العداء الهستيري” أو “روسي فوبيا”، تتضمّن وثيقة سياسية قدمتها إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان لنظيره السوفياتي ميخائيل غورباشوف، تعهّدت فيها بعدم توسّع حلف الناتو شرقاً مقابل موافقة الأخير على إعادة توحيد ألمانيا، بتاريخ 6 آذار/مارس 1991 (صحيفة “دير شبيغل” الألمانية، 27 شباط/فبراير 2022)
استقطب الجدل وتبادل الآراء بشأن روسيا بعضاً من أهم خبراء السياسة والاستراتيجية، من بينهم الديبلوماسي الأسبق جورج كينان، صاحب نظرية “الاحتواء” الشهيرة بين القوتين العظميين إبان الحرب الباردة. وفي خلفية النقاش “الاستراتيجي” آنذاك مسألتا “تمدد الناتو شرقاً واحتواء الصين” أو مواجهتها.
كينان، السياسي المخضرم، حافظ على اتّزان نظريته الشهيرة، احتواء روسيا، معتبراً توسّع رقعة الناتو شرقاً “سيؤسّس لحرب باردة جديدة”، واستطرد متهكماً على صنّاع القرار في واشنطن بأن “توسيع (الناتو) ناجم أصلاً عن قرار متسرّع من مجلس شيوخ لا يفقه شيئاً في السياسة الخارجية”، (مقابلة نشرتها دورية “فورين أفيرز”، 2 أيار/مايو 1998).
النخب السياسية والفكرية الأميركية، رغم تواضع أعدادها ونفوذها، تشاطرت في رؤيتها “الواقعية” للقضايا العالمية من مخاطر تمدد حلف “الناتو” شرقاً وما سيسفر عنه من مواجهات حتمية، وضمت بعضاً من أهم المسؤولين الأميركيين والأساتذة الجامعيين، منهم: استاذ العلوم السياسية المرموق جون ميرشايمر، وزيري الدفاع السابقان ويليام بيري وروبرت غيتس، واستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا جيفري ساكس، والسفير الأميركي الأسبق لدى موسكو، جاك ماتلوك، والقائمة تطول.
اللافت في تلك المجموعة من الآراء تصرح مدير وكالة الاستخبارات المركزية بيل بيرنز في العام 2008، من موقعه كسفير لبلاده في موسكو، قائلاً: “دخول أوكرانيا إلى حلف الناتو يشكّل ضوءاً شديد الإشعاع بين الخطوط الحمر بالنسبة إلى روسيا، وتحدّياً مباشراً للمصالح الروسية”.
راهناً، وبعد اتضاح توجّه حلف “الناتو” وقطبه المحوري الولايات المتحدة إلى تسعير الأزمة الأوكرانية واستغلال تصعيدها لاستعادة منطق الاستقطاب والحرب “الباردة”، وإحيائه معادلة الردع النووي، وإعلاء قرار “مجلس شيوخ لا يفقه في السياسة الخارجية”، تبدو البشرية جمعاء أمام مجموعة خيارات أحلاها مرّ، مهّد لها أحد أبرز أقطاب المواجهة العسكرية مع روسيا والمحلل الاستراتيجي، جورج فريدمان، جازماً أن روسيا، مع “انهيار الاتحاد السوفياتي، فقدت سيطرتها على المناطق الحدودية الغربية التي شكّلت القاعدة الصلبة لأمنها لمئات السنين. بيلاروسيا وأوكرانيا تشكّلان قلب المخاوف الروسية”، (نشرة “جيو بوليتكال فيوتشرز”، 7 كانون الثاني/ديسمبر 2021).
سير العمليات العسكرية، من وجهة النظر الأميركية، كان ينبغي أن يقود إلى اندلاع “حرب شوارع” مع القوات الروسية. ولهذا السبب، سرّعت واشنطن تسليم أوكرانيا أسلحة “خفيفة” تصلح لحرب العصابات، بيد أنّ الرد المقابل باعتماده سياسة القضم التدريجي مع إطباق حصاره على المدن الكبرى أجّل الفرحة الأميركية والغربية التي لا تزال الخيار الأول في الأجندة العامة.
لكن بدأنا نلمس تبلور بعض الأصوات العقلانية تطالب الإدارة ودوائر صنع القرار بالتضحية باستقلال أوكرانيا والتوصّل إلى حل يواكب الطلب الروسي بحيادية أوكرانيا، أحدثها نشرته شبكة “أم أس أن بي سي” الأميركية للتلفزة، محذرة من استمرار “رفض الولايات المتحدة إعادة النظر بوضع أوكرانيا في حلف (الناتو) كما هدّد بوتين بشن حرب. الخبراء يقولون إنّ ذلك (التوجه) كان غلطة كبرى”.
وأوضحت أن ما كانت ترمي إليه واشنطن من فرض اسلوبها بـ “ردع ديبلوماسي” على الرئيس الروسي يشير إلى أنّ “الولايات المتحدة استنفذت ترسانتها الديبلوماسية، ولم يعد بوسعها منع اندلاع الحرب ” (مقال في موقع الشبكة، 4 آذار/مارس 2022).
وتنبغي الإشارة إلى تجدّد نداءات إعادة الاعتبار إلى منطق أقطاب السياسة المشار إليهم أعلاه، في التحذير من انعكاسات تمدّد رقعة حلف الناتو لتضمّ أوكرانيا، الأمر الذي لم يكن متوقعاً، وبهذه السرعة، بعد نحو أسبوع من بدء العملية العسكرية الروسية. إذاً، نحن أمام لوحة بدأت تضغط على دوائر صنع القرار بجرأة ومنطق للتخلّي عن “خطأ” سياسة تمدد الحلف التي تهدد العالم بنكبة حقيقية، بحسب تعبير شبكة التلفزة الأميركية.
وباء عليه، باستطاعتنا القول إنّ “أزمة أوكرانيا”، بمعزل عن التصعيد العسكري الأميركي والغربي، بدأ يُنظر إليها من زاوية توازي المطالب الروسيّة: تسليم النخب الأميركية بتقسيم أوكرانيا، شرقها تحت النفوذ الروسي وغربها حليف لأميركا، واتباع سياسة الحياد.
أما المطلب الروسي الأوسع، إخراج منظومات الأسلحة والصواريخ النووية من أوروبا، لم يدخل دائرة الجدل العلني، بل جاء تلميحاً بأنّ القضايا الكبرى ستكون مادة للقاء قمة مفترض بين الرئيسين الأميركي والروسي، بحسب السياسيين والنخب الأميركية.
جرى تداول عدد من السيناريوهات المحتملة في أوساط النخب السياسية والفكرية لما قد يؤدي إليه الصراع الراهن بالاستناد إلى تدفق السلاح الغربي إلى بعض مناطق أوكرانيا، أبرزها التقسيم الواقعي لمنطقتين متضادتين في التوجه والانتماء بفعل تحقيق روسيا “بعض” مطالبها، ومصير العاصمة كييف يقرره سير العمليات الراهن، إذ تأمل واشنطن نجاح خيارها في إدامة العمليات العسكرية، وجرّ روسيا إلى خوض حرب عصابات قد تمتدّ لمدة طويلة، بعد اعلان حكومة منفى إذا نجى زيلنسكي وانسحب الى دولة مجاورة يتوقع أن تكون بولندا.
وقد يحصل نوع من التراجع من قبل واشنطن، تحت ضغط الإنجازات الميدانية الروسية، إلى طرح صيغة مؤداها التوصل إلى توقيع “اتفاقية سلام” بين موسكو وكييف، بحضور مكثف لواشنطن، وما يعنيه ضمناً تسليم الأخيرة بضم جمهوريتي إقليم الدونباس إلى روسيا، وتعهّد كييف بعدم الانضمام إلى حلف “الناتو”.
وليس مستبعداً التسليم بمطلب روسيا بعدم تسليح أوكرانيا باسلحة ومعدات ثقيلة ومنظومات صواريخ مضادة، رغم أن فرض وقف إطلاق النار في المرحلة الحالية ليس في مصلحة القوتين العظميين، لكن ذلك لا يمنع التوصل إلى ترتيبات مؤقتة لدواعٍ إنسانية.
أما الجانب الرغبوي الذي تروّجه واشنطن، فيتمحور حول حدوث انقلاب في موسكو يطيح الرئيس بوتين تحت غطاء تنامي التظاهرات الروسية المناوئة للحرب، والتودّد إلى بعض أفراد القطاعات العسكرية، وخصوصاً من قبل المجنّدين إلزامياً، بتعطيل معداتها العسكرية.
لكن حقائق الواقع الصارخة تدحض التمنيات وأحلام اليقظة عند الأخذ بعين الاعتبار أن موسكو كانت تعدّ لعملياتها العسكرية منذ زمن، وطبّقت عدداً من الإجراءات والترتيبات في وحداتها العسكرية واسلحتها لتناسب المهام المطلوبة، وتصاعد شعبية الرئيس الروسي داخل الأراضي الروسية، وكذلك في جمهوريتي إقليم الدونباس.
في الوقائع الصلبة أيضاً، نشهد تداول “مخارج” متعددة للأزمة من قبل مجموعة الخبراء والسياسيين والديبلوماسيين السابقين، أنصار الواقعية السياسية، مؤكدين أنّ حلف الناتو “ليس من مصلحته خوض حرب مع روسيا بسبب منطقة دونباس الأوكرانية، وسيدفع الأوكرانيويون ثمناً باهظاً لسياسة تهوّر الولايات المتحدة وتغزّلها بأوكرانيا كعضو مستقبلي في الناتو من دون أي نية حقيقية للالتزام بالدفاع عنها”.
عزّزت تلك النداءات الواقعية يومية “فورين بوليسي”، المقرّبة من البيت الأبيض، في تقرير قبل بضعة ايام، بالجزم قائلة “لا أحد، لا جو بايدن أو فلاديمير بوتين، يبدي قدراً من معرفة آفاق نهاية” الأزمة الراهنة المستمرة في التصاعد والاستقطاب، الأمر الذي يفتح كوة جديدة في باب “التفاوض” والبدء ببلورة تفاهمات بين واشنطن وموسكو.
من المفيد استعادة تحذير النخب الفكرية الأميركية بشكل خاص بشأن أوكرانيا، منذ بدء “غزل البيت الأبيض” مع أوكرانيا بعد نجاح ثورتها الملوّنة في العام 2014، أبرزهم الاستراتيجي والأستاذ الجامعي جون ميرشايمر في ندوة في العام 2015، قائلاً: “الغرب يقود أوكرانيا إلى مسار اللهو واللعب، وإلى الهلاك، والنتيجة تدمير أوكرانيا. إن ما نفعله الآن، في الحقيقة، يشجّع تلك النتيجة”.