بقلم الدكتور منذر سليمانمقالات مختارة
تصاعد منسوب التحذير من نشوب حرب أهلية أميركية د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
إمكانية تجدّد الحرب الأهلية في الولايات المتحدة أضحت مادة متداولة على منابر المؤسّسات الإعلامية الأميركية المتنوّعة، بعد أن كانت محصورة على نطاق ضيّق بين أوساط ما يسمّى اليسار أو بقايا أنماط التيارات اليسارية المتعددة. النخب السياسية والاقتصادية الاميركية النافذة عبّرت عن مخاوفها عبر صحيفة “نيويورك تايمز”، 18 كانون الثاني/يناير 2022 ، وكذلك عبّرمعهد كارنيغي للدراسات والأبحاث، 16 أيلول/سبتمبر ، 2021، إضافة إلى مؤسسات أخرى مرموقة.
الحدث الأبرز في اللحظة الراهنة كان انضمام النخب المالية والمصرفية حديثاً إلى إثارة المسألة بصورة أوضح وتوصيف أشدّ قسوة، عبر تعليقات رئيس أكبر مجموعة مالية في سوق المضاربات، راي داليو، 10 شباط/فبراير الحالي، الذي حذّر على صفحته الإلكترونية من نضوج عوامل نشوب حرب أهلية أميركية، أبرزها “تركيز مصادر الثروة في أيدي النخب المالية، وتوسّع الفجوة الفاصلة في معدلات المداخيل”، إضافة إلى “ارتفاع منسوب التطرف والصراع بين اليمين واليسار” في معادلة تسوية صفرية. المؤسّسة العسكرية أيضاً شاركت في حملة التحذير والإعداد لمواجهة أنماط متعددة من الصراعات المسلحة. ونشرت صحيفة “واشنطن بوست” مقالاً مذيلاً بتوقيع 3 من كبار جنرالات سلاح الجيش المتقاعدين، ذوي خبرة عسكرية لا تقل عن 30 عاما لكل منهم، بعنوان “المؤسّسة العسكرية يجب أن تستعدّ الآن لعصيان مدني في 2024″، موسم الانتخابات الرئاسية المقبلة (17 كانون الأول/ديسمبر 2021).
وجاء في تحذير القادة العسكريين من تبلور انقسامات حادة في الانتخابات الرئاسية أنّه “قد يتّبع البعض أوامر صادرة عن القائد الأعلى الحقيقي للقوات المسلحة، بينما قد يتّجه الآخرون نحو (المرشح) الخاسر ترامب”. أمام هذه الحالة المرئية، ليس مستبعداً رؤية “تصدّع في القوات العسكرية، قد يؤدي إلى نشوب حرب أهلية”.
جدير بالذكر ما خبره المشهد السياسي الأميركي من حالة استقطاب حاد منذ فوز الرئيس السابق دونالد ترامب، ولا تزال فصولها تتمدد ومفاعيلها تتجذّر، نظراً إلى طرقه وتراً حساساً من العنصرية الكامنة والنزعة الشعبوية المتجددة.
في هذا الصدد، من المفيد المرور على رؤى نخب الأجهزة الاستخبارية لما يتوفر لديها من معلومات حقيقية شاملة ونصائح “واقعية” لصنّاع القرار. وكالة الاستخبارات المركزية، سي آي إيه، تموّل مجموعة بحثية تُعرف باسم “فريق عمل عدم الاستقرار السياسي”، مهمّتها إنشاء قاعدة بيانات شاملة للبنى المعنية بالصراعات السياسية الداخلية، كمؤشّر على “انهيار السلطة المركزية، والتنبؤ بأمكنة اندلاع الصراعات”.
وأبرزت صحيفة “نيويورك تايمز”، 18 كانون الثاني/يناير 2022، العضو البارز في المجموعة، السيدة باربرا وولتر، عقب إصدارها كتاباً بعنوان ” كيف تبدأ الحروب الأهلية”، بتسليطها الضوء على 3 عوامل، تقارب فيه اندلاع صراع داخلي بقيادة مجموعات عنصرية، تحاكي نموذجي “إيرلندا الشمالية أو حرب الغوار في كولومبيا”، محوره اعتماد العنف السياسي لتهديد الأمن العام.
عوامل اندلاع حرب أهلية، بحسب وولتر، هي: انتقال السلطة إلى نموذج حكم ديموقراطي أو نظام حكم استبدادي؛ الاصطفاف الشعبوي أو الفئوي، وهو الأخطر؛ تضعضع المكانة الاجتماعية لمجموعة ما، وما يرافقه من خسارتها لنفوذها السياسي.
في المحصّلة، تؤكد وولتر، التي أمضت 3 عقود في خدمة المؤسّسة الأمنية، أن المجتمع الأميركي يسير بسرعة نحو “اصطفاف شعبوي وحكم استبدادي يقترب من مرحلة اندلاع العصيان المدني”. وتضيف أن تضافر تلك العوامل يعني أن أميركا “أقرب إلى مرحلة اندلاع حرب أهلية بقدر أعلى ممّا يعتقد بعضنا”.
دراسة معهد “بروكينغز”، السالفة الذكر، تؤكّد سوداوية خلاصات السيدة وولتر. وقد اشار المعهد إلى نتائج استطلاع شامل للرأي، نُشر في 4 شباط/فبراير 2021، تفيد بأن أغلبية معتبرة من الأميركيين، 46%، يعتقدون بنشوب حرب أهلية، مقابل 11% ممن ليس لديهم رأي محدد، ومقابل 43% لا يؤيّدون نشوبها. وأضاف أن النسبة السوداوية ترتفع بين أوساط الجيل الناشيء إلى 53%. كما أن للتقسيم السكاني الجغرافي، بين الشمال والجنوب، دلالة أكبر بتأييد نحو 49% من مواطني الولايات الجنوبية لنشوب حرب أهلية، مقابل 39% من سكان ولايات الساحل الشرقي “ليبرالية التوجه” لا يؤيّدونها، بشكل عام.
المشهد السياسي الأميركي، بحسب “بروكينغز”، بالغ التعقيد ويشهد “حروباً حدودية” بين الولايات، أرضيتها المساحة الضيقة بين “حقوق الولايات كما تراها حكوماتها المحلية، وصلاحيات الدولة المركزية”، أبرزها سنّ الأولى تشريعات تعارض القوانين الفيدرالية السارية وتناقضها، مثل حق المرأة في الإجهاض، الذي تنقلب عليه تدريجياً المحكمة العليا بفعل ميزان القوى الراهن بين تيّاري الحزب الديموقراطي، الأقلية، والجمهوري الذي ينعم بالأغلبية.
كما أن التباين الحاد بين المناطق الريفية، وهي الأغلبية جغرافياً، والمدينية، الموسومة بمعظمها بالميل نحو التيار الليبرالي، سيتفاقم مجدّداً عند أولى تباشير المواجهات. وشهد بعض ولايات الساحل الغربي، مثل كولورادو وولايات جبال الروكي، سلسلة مواجهات مع القوى الأمنية المركزية، تتعاظم حدّتها باطراد.
إحدى ميّزات “المواجهة المقبلة”، بحسب إجماع معظم الخبراء الأميركيين، أن الولايات الجنوبية وفي جبال الروكي، التي كانت تعاني من شحّ في مصادر التصنيع والموارد المالية إبان الحرب الأهلية، قبل نحو 150 عاماً، لم تعد تعاني من ضعف اقتصادي منذ مساعي التحديث والتصنيع التي اعتمدتها الحكومة المركزية منذ بداية عقد الستينيات في القرن الماضي.
وتنظر الدولة المركزية بقلق إلى ولاية كبيرة مثل تكساس، المستقلة بمواردها النفطية ومداخيلها المرتفعة نسبياً، ونزعاتها المتجدّدة نحو الانفصال عن الحكومة المركزية، رغم الإدراك العام أن ذلك الهدف لن يتحقق في المستقبل القريب، لكنه يبقى عنصر تهديد يزداد زخماً مع تفاقم الأزمة الاقتصادية العامة وترهّل الحكومة الفيدرالية في تقديم خدماتها العامة، باستثناء قطاع الأمن، لتلك المناطق التي يعتبرها كثيرون “مناطق نائية”، لكنها حبلى بالأحداث.
أوجزت دراسة معهد “كارنيغي”، السابقة الذكر، بعض التحديات للحكومة المركزية باعتبار أن “سمّية المناخ السياسي الراهن تعقّد مساعي تفاوض الفريقين (الديموقراطي والجمهوري) بشأن قضايا مهمة لكل منهما، وتدفع بمنسوب الغضب لدى العامة إلى أعلى مدياته ضد الحكومة الفيدرالية التي يسودها نظام المنتصر يحصد كل الجوائز”.
بيد أن النخب السياسية لا تزال منقسمة بشأن اندلاع حرب أهلية من عدمه، والتعامل معها بدوافع رغبوية وفئوية من قبل الطرفين: الليبراليون يستبعدون الحرب، والمحافظون لا يؤيّدونها علناً، بل يسعون لإنضاج الظروف المؤدّية إلى انحسار خيارات الطرف المقابل.
الطرف الأول يتسلّح بالمؤسسات الدستورية، وابرزها المؤسّسة العسكرية، والثاني لديه ميليشيات مسلحة لا تتبع قيادة مركزية، وهي منتشرة في أكثر من ولاية، ليس في وسعها إشعال معركة طويلة الأمد، كما تشير معظم التقديرات. كما أن ضبابية الانقسام، بين الشمال والجنوب في الوصفة الأهلية السابقة، تعقّد حسابات تلك الميليشيات وداعميها، في ظلّ انقسام مديني/ريفي بصورة أدقّ. كما أن وفرة السلاح الفردي ( 434 مليون قطعة سلاح، 19% منها تقريبا أسلحة رشاشة) لدى الأميركيين تشكّل أرضية خصبة لإندلاع العنف.
المحصّلة العامة للمشهد الأميركي تشير إلى أزمة بنيوية في النظام الساسي، وما شهده من أحداث دامية إبان “غزوة الكابيتول”، 6 كانون الثاني/يناير 2021، لم يكن معزولاً عن سياق الانقسام العام والاصطفافات الحادة، إضافة إلى رصد ظاهرة ارتفاع موجة تهديدات أعضاء الكونغرس بنحو 107% منذ ذلك الحين، والتي شملت أيضاً موظفي الدوائر الانتخابية.
التحدّي الماثل أمام المؤسّسة السياسية فريد من نوعه، بمقاييس العصر الراهن. إذ استطاعت المؤسّسة تجاوز تحديات حروبها المتتالية منذ هزيمتها في فيتنام، والأزمة الاجتماعية العامة خلال احتجاجات متتالية طبعت عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. لكن فقدان الثقة العامة بالمؤسّسة يتعاظم بشكل متدرّج، وهو الأخطر على مستقبلها.
تضافر عوامل الانقسام السياسي، وإعادة رسم خطوط الدوائر الانتخابية لمفاضلة الحزب الجمهوري، وربما ارتفاع معدلات حوادث الإرهاب الداخلي والمصادمات المسلحة “الموسمية”، يعزّزها جميعاً تدنّي الأوضاع الاقتصادية وتنامي معدلات البطالة واتساع هوّة المداخيل، ستبقى حاضرة في المشهد اليومي، لكنّها تحت سيطرة الدولة المركزية، التي لا تزال تعتبر نشوب حرب أهلية “خطاً أحمر”.
الحدث الأبرز في اللحظة الراهنة كان انضمام النخب المالية والمصرفية حديثاً إلى إثارة المسألة بصورة أوضح وتوصيف أشدّ قسوة، عبر تعليقات رئيس أكبر مجموعة مالية في سوق المضاربات، راي داليو، 10 شباط/فبراير الحالي، الذي حذّر على صفحته الإلكترونية من نضوج عوامل نشوب حرب أهلية أميركية، أبرزها “تركيز مصادر الثروة في أيدي النخب المالية، وتوسّع الفجوة الفاصلة في معدلات المداخيل”، إضافة إلى “ارتفاع منسوب التطرف والصراع بين اليمين واليسار” في معادلة تسوية صفرية. المؤسّسة العسكرية أيضاً شاركت في حملة التحذير والإعداد لمواجهة أنماط متعددة من الصراعات المسلحة. ونشرت صحيفة “واشنطن بوست” مقالاً مذيلاً بتوقيع 3 من كبار جنرالات سلاح الجيش المتقاعدين، ذوي خبرة عسكرية لا تقل عن 30 عاما لكل منهم، بعنوان “المؤسّسة العسكرية يجب أن تستعدّ الآن لعصيان مدني في 2024″، موسم الانتخابات الرئاسية المقبلة (17 كانون الأول/ديسمبر 2021).
وجاء في تحذير القادة العسكريين من تبلور انقسامات حادة في الانتخابات الرئاسية أنّه “قد يتّبع البعض أوامر صادرة عن القائد الأعلى الحقيقي للقوات المسلحة، بينما قد يتّجه الآخرون نحو (المرشح) الخاسر ترامب”. أمام هذه الحالة المرئية، ليس مستبعداً رؤية “تصدّع في القوات العسكرية، قد يؤدي إلى نشوب حرب أهلية”.
جدير بالذكر ما خبره المشهد السياسي الأميركي من حالة استقطاب حاد منذ فوز الرئيس السابق دونالد ترامب، ولا تزال فصولها تتمدد ومفاعيلها تتجذّر، نظراً إلى طرقه وتراً حساساً من العنصرية الكامنة والنزعة الشعبوية المتجددة.
في هذا الصدد، من المفيد المرور على رؤى نخب الأجهزة الاستخبارية لما يتوفر لديها من معلومات حقيقية شاملة ونصائح “واقعية” لصنّاع القرار. وكالة الاستخبارات المركزية، سي آي إيه، تموّل مجموعة بحثية تُعرف باسم “فريق عمل عدم الاستقرار السياسي”، مهمّتها إنشاء قاعدة بيانات شاملة للبنى المعنية بالصراعات السياسية الداخلية، كمؤشّر على “انهيار السلطة المركزية، والتنبؤ بأمكنة اندلاع الصراعات”.
وأبرزت صحيفة “نيويورك تايمز”، 18 كانون الثاني/يناير 2022، العضو البارز في المجموعة، السيدة باربرا وولتر، عقب إصدارها كتاباً بعنوان ” كيف تبدأ الحروب الأهلية”، بتسليطها الضوء على 3 عوامل، تقارب فيه اندلاع صراع داخلي بقيادة مجموعات عنصرية، تحاكي نموذجي “إيرلندا الشمالية أو حرب الغوار في كولومبيا”، محوره اعتماد العنف السياسي لتهديد الأمن العام.
عوامل اندلاع حرب أهلية، بحسب وولتر، هي: انتقال السلطة إلى نموذج حكم ديموقراطي أو نظام حكم استبدادي؛ الاصطفاف الشعبوي أو الفئوي، وهو الأخطر؛ تضعضع المكانة الاجتماعية لمجموعة ما، وما يرافقه من خسارتها لنفوذها السياسي.
في المحصّلة، تؤكد وولتر، التي أمضت 3 عقود في خدمة المؤسّسة الأمنية، أن المجتمع الأميركي يسير بسرعة نحو “اصطفاف شعبوي وحكم استبدادي يقترب من مرحلة اندلاع العصيان المدني”. وتضيف أن تضافر تلك العوامل يعني أن أميركا “أقرب إلى مرحلة اندلاع حرب أهلية بقدر أعلى ممّا يعتقد بعضنا”.
دراسة معهد “بروكينغز”، السالفة الذكر، تؤكّد سوداوية خلاصات السيدة وولتر. وقد اشار المعهد إلى نتائج استطلاع شامل للرأي، نُشر في 4 شباط/فبراير 2021، تفيد بأن أغلبية معتبرة من الأميركيين، 46%، يعتقدون بنشوب حرب أهلية، مقابل 11% ممن ليس لديهم رأي محدد، ومقابل 43% لا يؤيّدون نشوبها. وأضاف أن النسبة السوداوية ترتفع بين أوساط الجيل الناشيء إلى 53%. كما أن للتقسيم السكاني الجغرافي، بين الشمال والجنوب، دلالة أكبر بتأييد نحو 49% من مواطني الولايات الجنوبية لنشوب حرب أهلية، مقابل 39% من سكان ولايات الساحل الشرقي “ليبرالية التوجه” لا يؤيّدونها، بشكل عام.
المشهد السياسي الأميركي، بحسب “بروكينغز”، بالغ التعقيد ويشهد “حروباً حدودية” بين الولايات، أرضيتها المساحة الضيقة بين “حقوق الولايات كما تراها حكوماتها المحلية، وصلاحيات الدولة المركزية”، أبرزها سنّ الأولى تشريعات تعارض القوانين الفيدرالية السارية وتناقضها، مثل حق المرأة في الإجهاض، الذي تنقلب عليه تدريجياً المحكمة العليا بفعل ميزان القوى الراهن بين تيّاري الحزب الديموقراطي، الأقلية، والجمهوري الذي ينعم بالأغلبية.
كما أن التباين الحاد بين المناطق الريفية، وهي الأغلبية جغرافياً، والمدينية، الموسومة بمعظمها بالميل نحو التيار الليبرالي، سيتفاقم مجدّداً عند أولى تباشير المواجهات. وشهد بعض ولايات الساحل الغربي، مثل كولورادو وولايات جبال الروكي، سلسلة مواجهات مع القوى الأمنية المركزية، تتعاظم حدّتها باطراد.
إحدى ميّزات “المواجهة المقبلة”، بحسب إجماع معظم الخبراء الأميركيين، أن الولايات الجنوبية وفي جبال الروكي، التي كانت تعاني من شحّ في مصادر التصنيع والموارد المالية إبان الحرب الأهلية، قبل نحو 150 عاماً، لم تعد تعاني من ضعف اقتصادي منذ مساعي التحديث والتصنيع التي اعتمدتها الحكومة المركزية منذ بداية عقد الستينيات في القرن الماضي.
وتنظر الدولة المركزية بقلق إلى ولاية كبيرة مثل تكساس، المستقلة بمواردها النفطية ومداخيلها المرتفعة نسبياً، ونزعاتها المتجدّدة نحو الانفصال عن الحكومة المركزية، رغم الإدراك العام أن ذلك الهدف لن يتحقق في المستقبل القريب، لكنه يبقى عنصر تهديد يزداد زخماً مع تفاقم الأزمة الاقتصادية العامة وترهّل الحكومة الفيدرالية في تقديم خدماتها العامة، باستثناء قطاع الأمن، لتلك المناطق التي يعتبرها كثيرون “مناطق نائية”، لكنها حبلى بالأحداث.
أوجزت دراسة معهد “كارنيغي”، السابقة الذكر، بعض التحديات للحكومة المركزية باعتبار أن “سمّية المناخ السياسي الراهن تعقّد مساعي تفاوض الفريقين (الديموقراطي والجمهوري) بشأن قضايا مهمة لكل منهما، وتدفع بمنسوب الغضب لدى العامة إلى أعلى مدياته ضد الحكومة الفيدرالية التي يسودها نظام المنتصر يحصد كل الجوائز”.
بيد أن النخب السياسية لا تزال منقسمة بشأن اندلاع حرب أهلية من عدمه، والتعامل معها بدوافع رغبوية وفئوية من قبل الطرفين: الليبراليون يستبعدون الحرب، والمحافظون لا يؤيّدونها علناً، بل يسعون لإنضاج الظروف المؤدّية إلى انحسار خيارات الطرف المقابل.
الطرف الأول يتسلّح بالمؤسسات الدستورية، وابرزها المؤسّسة العسكرية، والثاني لديه ميليشيات مسلحة لا تتبع قيادة مركزية، وهي منتشرة في أكثر من ولاية، ليس في وسعها إشعال معركة طويلة الأمد، كما تشير معظم التقديرات. كما أن ضبابية الانقسام، بين الشمال والجنوب في الوصفة الأهلية السابقة، تعقّد حسابات تلك الميليشيات وداعميها، في ظلّ انقسام مديني/ريفي بصورة أدقّ. كما أن وفرة السلاح الفردي ( 434 مليون قطعة سلاح، 19% منها تقريبا أسلحة رشاشة) لدى الأميركيين تشكّل أرضية خصبة لإندلاع العنف.
المحصّلة العامة للمشهد الأميركي تشير إلى أزمة بنيوية في النظام الساسي، وما شهده من أحداث دامية إبان “غزوة الكابيتول”، 6 كانون الثاني/يناير 2021، لم يكن معزولاً عن سياق الانقسام العام والاصطفافات الحادة، إضافة إلى رصد ظاهرة ارتفاع موجة تهديدات أعضاء الكونغرس بنحو 107% منذ ذلك الحين، والتي شملت أيضاً موظفي الدوائر الانتخابية.
التحدّي الماثل أمام المؤسّسة السياسية فريد من نوعه، بمقاييس العصر الراهن. إذ استطاعت المؤسّسة تجاوز تحديات حروبها المتتالية منذ هزيمتها في فيتنام، والأزمة الاجتماعية العامة خلال احتجاجات متتالية طبعت عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. لكن فقدان الثقة العامة بالمؤسّسة يتعاظم بشكل متدرّج، وهو الأخطر على مستقبلها.
تضافر عوامل الانقسام السياسي، وإعادة رسم خطوط الدوائر الانتخابية لمفاضلة الحزب الجمهوري، وربما ارتفاع معدلات حوادث الإرهاب الداخلي والمصادمات المسلحة “الموسمية”، يعزّزها جميعاً تدنّي الأوضاع الاقتصادية وتنامي معدلات البطالة واتساع هوّة المداخيل، ستبقى حاضرة في المشهد اليومي، لكنّها تحت سيطرة الدولة المركزية، التي لا تزال تعتبر نشوب حرب أهلية “خطاً أحمر”.