أميركا قلقة من تفوّق خصومها في الصواريخ الأسرع من الصوت د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
لا تكاد التغطية الأميركية اليومية للصين وروسيا تتراجع بحسب الأولويات والمستجدات، حتى يتجدد زخمها وبوتيرة عدائية تشدّ عُضد مفاصل القوى والتيارات النافذة في صناعة القرار. الهجمة الحالية، المميّزة بشراستها، استندت إلى تقرير منسوب لصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، في الـ 17 من تشرين الأول/أكتوبر 2021، زعم أن الاستخبارات الغربية رصدت إطلاق الصين “سرّاً” لصاروخ/مقذوف أسرع من الصوت دار مرتين حول كوكب الأرض في مدار منخفض وهو قادر على حمل رأس نووي.
عززت الحملة الأخيرة وجهة نظر فريق “سباق التسلح النووي” الأميركي، الداعي إلى تحديث الترسانة النووية في سياق سعي الإدارة لـ “الاستدارة نحو الصين”، مع الإقرار بأن التجربة الصينية “فاجأت المؤسّسة الاستخبارية الأميركية”، واتضح على الفور أيضاً إخفاق تقديراتها المتعددة لمخزون الصين وخططها ومديات تقدمها العلمي.
للبنتاغون برنامج “الضربة العالمية السريعة” لتسديد الضربة الأولى للخصوم (الاتحاد السوفياتي السابق) قبل أن يتمكن أحدهم من الرد بالمثل، منذ بداية الألفية الجديدة، وتندرج تحته المساعي الحثيثة ورصد الميزانيات الثابتة لتطوير أسلحة هجومية أسرع من الصوت، وتم تنفيذ 3 تجارب حيّة “ناجحة (لاختبار) تقنيات فرط صوتية، وقدرات ونظم نموذجية” (مسؤول عسكري لوكالة “رويترز” للأنباء، 21 تشرين الأول/أكتوبر 2021).
أقرّ البنتاغون بفشل تجربته الأحدث على تقنية أسرع من الصوت، في الـ 21 من تشرين الأول/أكتوبر الحالي، نتيجة إخفاق “المحرك الصاروخي المعزز”، بالتزامن مع نجاح التجربة الصينية في تقنية رديفة. وأوضح المتحدث باسم البنتاغون، تيموثي غورمان، أن “إنتاج أسلحة أسرع من الصوت لا يزال على رأس الأولويات، ووزارة الدفاع تثق بمنظومتها لنشر قدرات هجومية أسرع من الصوت في بداية العقد الحالي”.
أثارت التجربة الصينية الأخيرة مشاعر الإحباط لدى “قادة الاستخبارات والدفاع الذين حذّروا من أن (التجربة الناجحة) شكّلت قفزة تقنية هامة قد تهدّد الولايات المتحدة بطرق عديدة”. وأضاف مسؤول رفيع في الإدارة الأميركية للصحافيين أنه “لم يطرأ أيّ تغيير على الموقف (الرسمي) من انتشار الأسلحة، لكن الدراسة ستأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الأمنية الراهنة” على المستوى الدولي. (شبكة “سي أن أن”، 22 تشرين الأول/اكتوبر 2021).
إدارة الرئيس بايدن على وشك إعلان انتهائها من دراسة “مراجعة الموقف النووي”، التي ستحدد بموجبها حجم الإنفاق وطبيعة الأسلحة التي يطلبها القادة العسكريون، وكذلك مدى استمرار التزام واشنطن بمبدأ “عدم توجيه الضربة النووية الأولى”.
في السياق عينه، أبلغ “قادة الأجهزة الاستخبارية” أعضاء لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، في جلسة خاصة، أن تجربة بكين “شكّلت تطوراً مهماً في قدرات الصين لإطلاق ضربة استراتيجية أولى ضد الولايات المتحدة”. وعلّق أحد أعضاء لجنة القوات المسلحة عن الحزب الجمهوري بأن أقرانه في الكونغرس يطلبون من إدارة البيت الأبيض “تقديم تفسير آليات الاستشعار والدفاع ضد الصواريخ الأسرع من الصوت”.
وأضاف، بأن التجربة الصينية “تشير إلى حاجتنا بلضرورة تحديث برامجنا بصورة سريعة”، لترميم الترسانة النووية الأميركية على ضوء “تسابق روسيا والصين بأقصى السرعة” (شبكة “سي أن أن”، 22 تشرين الأول/أكتوبر الحالي).
المفوّض الأميركي لشؤون نزع الأسلحة والسفير الأسبق لدى بريطانيا، روبرت وود، أعرب عن قلق بلاده من نجاح الصين في “إطلاق مركبة أسرع من الصوت، لأن الولايات المتحدة تفتقد سلاحاً دفاعياً فعّالاً ضدها”.
الإنفاق العسكري الأميركي، الذي يتجاوز 740 مليار دولار، يفوق ميزانيات الصين العسكرية بنحو 3 اضعاف، وهو يعادل 3.74% من الناتج الأميركي الإجمالي، مقابل 1.75% من الناتج الإجمالي للصين، بحسب “معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام”.
خبير الأسلحة النووية الأميركي المرموق، جيفري لويس، حذّر صنّاع القرار من الإفراط في التشاؤم وتعزيز سباق التسلح، قائلاً “نصيحتي اليوم هي التحلي بعد المبالغة، فلدى الصين نحو 100 سلاح نووي باستطاعتها استهداف الأراضي الأميركية، وأستطيع التأقلم مع تلك الحقيقة. أنه الردع النووي”.
وشدّد لويس على الجانب التقني الصرف لتوضيح تحذيره بأن جميع النظم العاملة في مدار الكرة الأرضية تسير بأسرع من الصوت، كما أن مكوك الفضاء الأميركي يعمل بتقنية الفرط صوتية ذاتها، “والفارق الوحيد هو أن المكوك لا يحمل قنبلة نووية على متنه، والمركبة الصينية لم تتزود بترس الهبوط”.
بدايات التقنية الأسرع من الصوت تعود إلى الأبحاث التي أجراها النازيون خلال الحرب العالمية الثانية بهدف قصف مدينة نيويورك. وأجرت الولايات المتحدة تجارب على إطلاق مركبة فضائية أسرع من الصوت في مدار منخفض في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، وتخلت عن البرنامج نظراً إلى جملة من التحديات، ومن ثم سخّر سلاح الجو الأميركي التطور التقني لأغراض الاستطلاع وصناعة القاذفات.
في أوج الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، أشارت وثيقة لمكتب الاستخبارات في وزارة الخارجية الأميركية لعام 1967 إلى أن الاتحاد السوفياتي عازم على تطوير “منظومة قصف مداري جزئي” Fractional Orbital Bombardment System (FOBS) – نتج عنه إمكانية وصول الصاروخ وحمولته إلى الأراضي الأميركية من دون أن تستطيع رصده. بيد أن أبحاث البلدين في مجال الأقمار الاصطناعية وقدرتها على كشف نيات الطرف الآخر أدّت إلى تخلي موسكو عن ذلك البرنامج، فأنتجت 20 صاروخاً ونشرت 18 منها، وإحيلت إلى التقاعد في العام 1983 لأسباب تتعلق بعدم دقة إصابتها الهدف بدائرة محيطها 1.1 كلم، واستعاضت عنها موسكو بتقنية متطورة للصواريخ العابرة للقارات بمركبات وكبسولات فضائية (صواريخ آر-36، وكبسولات سايكلون) باستطاعتها حمل 3 رؤوس نووية أكثر دقة تنطلق ضد أهداف متعددة، وللمركبة القدرة على العودة إلى الاستخدام مجدداً من محطة الإنطلاق.
وكما علّق المفوّض الأميركي لشؤون نزع الأسلحة، روبرت وود، قائلاً: “لا ندري كيف لنا الدفاع ضد ذاك النوع من التقنية” الأسرع من الصوت. فالترسانة العسكرية الأميركية راهناً لا تمتلك القدرة على اعتراض تلك الصواريخ وتدميرها ، ولا تزال الأبحاث العسكرية منكبّة على التغلب على السرعة الفائقة للصواريخ الباليستية ووجهتها.
الإمكانيات المتوافرة حالياً تتضمن منظومة الدفاع الجوي ضد الصواريخ الباليستية، من طراز “إيجيس – Aegis”، في سلاح البحرية، لكنها غير مصمّمة لإصابة “منظومة القصف المداري الجزئي – FOBS”، وتتسارع الجهود لتطوير “برامج إيجيس، وقدرات أجهزة الرادار والصواريخ الباليستية لاعتراض تقنية مركبات الانزلاق من الفضاء”.
الخيار التقني الآخر لسلاح البحرية الأميركية هو تسليح صواريخه بأسلحة تطلق إشعاعات نووية، بسيل من النيوترونات العالية الطاقة، والتي من شأنها إحداث أضرار في نظم توجيهات الصواريخ المعادية، عبر منظومة “سبرينت المضادة للصواريخ الباليستية”.
للعقلاء والخبراء الأميركيين رأي مختلف بعيداً عن التهويل بسباق التسلح. رئيس سلاح الجو الأميركي برتبة وزير، والاختصاصي في علم الصواريخ، فرانك كيندال، أحبط توقعات معسكر الحرب من التجربة الصينية بقوله إن لجوء الصين إلى تجربة مركبة أسرع من الصوت والعودة من المسار بسلام وفّر عليها استخدام الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، “وهي إحدى الطرائق لتفادي النظم الدفاعية والتحذير من الصواريخ”.
البعض الآخر من الخبراء الأميركيين أوضح أن نجاح التجربة الصينية “لن يغيّر التوازن الاستراتيجي مع الصين، نظراً إلى أن نظم الدفاع ضد الصواريخ الباليستية جرى تصميمها لهزم هجمات صغيرة من دول مثل كوريا الشمالية وربما إيران، وليس لردع روسيا والصين” (نشرة “ذا هيل”، 22 تشرين الأول/أكتوبر 2021).
ما يقلق الأوساط الأميركية حقيقة، إلى جانب مزاحمتها تقنياً، هو خشيتها من عدم القدرة على إمداد قواتها العاملة في المياه الآسيوية، في حال نشوب حرب من الصين. احتمالات المواجهة العسكرية بين واشنطن وبكين أضحت مادة متداولة، والتحذير من أخطارها يتعاظم، حتى في ظل تأكيد الرئيس جو بايدن أن بلاده “ستدافع عسكرياً عن تايوان”، قبل بضعة أيام.
للدلالة على الإخفاقات الأميركية، تشير البيانات والدراسات المختصة إلى الاضطراب الجاري في آليات الإمداد، وخصوصاً أن “أزمة الشحن البحري الراهنة لهي خير دليل على تقصير الاسطول التجاري الأميركي وعجزه عن تلبية الاحتياجات الاستراتيجية الأميركية” (نشرة “ديفينس نيوز”، 21 تشرين الأول/أكتوبر الجاري).
يجزم القادة العسكريون بأن الأسلحة الأميركية المنتشرة في المياه الآسيوية تكفي لمواجهة الصين، “لكن في حال امتدت الأزمة إلى أبعد من بضع ساعات لعدة أيام، فالقوات الأميركية ستحتاج إلى التزود والإمداد، مرة أخرى، بموارد ضرورية لمسرح قتال بين الدول العظمى”. بعبارة أخرى، الإمداد عبر السفن التجارية المشار إليها في حالتها القاصرة الراهنة.