الأولوية الطارئة: القطار وأوتوبيسات النقل العام
غالب قنديل
صُمِّم النظام اللبناني منذ العهد الإعماري على صفقات التورّم الاستهلاكي بالاستدانة المفرطة والربوية، وبُني على تدمير وتخريب كل ما هو عام، فسرت الخصخصة على أصغر خلايا الخدمة العامة لصالح ما اصطَلح إعلاميون على نعته لاحقا بـ “اللصلصة” لما تكشّف فيه من فضائح التقاسم والتحاصّ السياسي وسمسرات وعمولات، تشاركها ساسة ووسطاء.
أولا: ليس أدلّ على العبث بالمال العام والهدر المنظم من مشهد عشرات الأوتوبيسات العائدة لمصلحة النقل المشترك، وقد باتت خردة مهملة، تسرح وتمرح فيها الحشرات، ويكسوها الوحل والغبار والوسخ، بينما يشكو الناس في سائر المدن والأرياف من صعوبات النقل وأكلافه المتزايدة في زمن قلة وحاجة، حتى أن بعض الموظفين في الدوائر والمؤسسات العامة يوزّعون أيام الدوام الأسبوعية في ما بينهم، ليضمنوا انتظام الخدمة العامة بمعدل معقول في حدِّها الأدنى القياسي. ولا يمكن تأجيل البتِّ بهذه القضية الملحة بأيِّ ذريعة كانت، ويجب وضعها بسرعة على سكّة الحل الجذري، ولاسيما أن في أدراج المسؤولين ملفات وعروض شراكة مجزية، نُشرت حولها تقارير ومعلومات كثيرة، لكن الأمر ظل في دوائر التكّهن بعيدا عن النقاش الجدي.
ثانيا: إلى جانب الأوتوبيسات الصينية وغيرها، ثمة مَن أثار فكرة شبكة معدِّيات بحرية حديثة لنقل الركاب والسيارات والشاحنات على امتداد الساحل اللبناني. ونقترح على الحكومة العتيدة تشكيل فريق من خبراء النقل ومهندسيه، لتجميع العروض والمشاريع والملفات وفرزها وتصنيفها، لتوضع قيد الدرس بهدف اتخاذ القرار بالخطوات التي لا يجب بالضرورة أن ترتِّب إنفاقا من المال العام مع إمكانية اتّباع طريق الاستثمار المشترك مع الشركات المهتمة، وبصرامة ضبط التسعير المعقول للخدمات، ووضعه تحت الرقابة الصارمة لضمان مصالح الناس، وهذا هو الأصل في القضية. ويقينا ستخفِّف هذه الخطوات وغيرها من درجة اعتماد اللبنانيين على سياراتهم الخاصة الى درجة تحوّل معها البلد إلى كاراج كبير مزدحم، بينما استيراد السيارات وقطع الغيار واللوازم الملحقة تمثّل قسطا وافرا من نزيف العملة الصعبة إلى الخارج.
ثالثا: هذه المعضلة تمثّل أحد أهمِّ المشاكل الضاغطة، التي يجب أن تُعطى أولوية في المعالجة العاجلة دون إبطاء، والوفر الاقتصادي والمالي المتاح من حلِّ مشاكل الانتقال بين المدن والمناطق المختلفة وداخل المراكز السكنية الكبرى، سيقلِّص من حجم الهدر الناتج عن تشوّهاتٍ استهلاكية مرضية في زمن الورم والانتفاخ، وسيضطر الناس للتعوّد على نمط عيش عقلانيّ وعمليّ وأقلّ كلفة، بعدما ولّى زمن الرخاء المصطنع و”الفشخرة ” الكذّابة بالديون والفوائد الربوية، التي يسدِّدها الناس من مستوى العيش المتدهور مع انهيار قدرة الدولة على توفير الحدِّ الأدنى مما وفَّرته سابقا.
الإنفاق على الصحة والتعليم والكهرباء والمياه والري والتنمية الصناعية والبحث العلمي، هي أولويات الشعوب النامية والحكومات التي تتَّسم ببعض الرشد في مقاربة المصالح الوطنية. وعلى اللبنانيين بدء التعوّد على نسق عيش أقلَّ بهورةً.