التنمية الصناعية والزراعية وتخطّي الكارثة
غالب قنديل
رغم الكارثة الخطيرة وما تخلّفه من نتائج اقتصادية ومالية في جميع المجالات، يظهر النظام اللبناني قوة متجذرة في ممانعة التغيير والاستعصاء على أي إصلاح جدي، وبالذات في تبنّي توجه إنتاجي، يرعى الصناعة والزراعة. وهذا الايقاع البليد والمتحجر يعاكس العديد من النماذج والتجارب التاريخية والقاعدة البديهية الشائعة “الضرورات تبيح المحظورات”.
أولا: تستمر الوكالات الحصرية الاحتكارية بوصفها من المقدسات، التي يمنع مسّها أو تقييدها، على الرغم من ظهور براهين عملية على دورها الخطير في رفع كلفة مواد ضرورية وسلع مهمة في زمن الحاجة والفاقة. والأمر أوسع نطاقا من الأدوية والمستحضرات الطبية، ويشمل العديد من السلع والمواد الأساسية في حياة المواطن العادي، ويتصرف الوكلاء في الأسعار وقيود العرض والحجب بما يحفظ لهم معدلات أرباحهم المرتفعة والمحصّنة، بالتناسب مع انهيار الليرة. وهم محميّون مميّزون ضد أي مساءلة أو محاسبة أو قيود أو منافسة، بقوة القوانين تحت عيون السلطة الساهرة والوقحة. ومرد ذلك إلى استمرار هيمنة أخطبوط احتكاري مصرفي تجاري، مرتبط بالخارج وتابع للغرب، على بنى النظام السياسي.
ثانيا: لم يُتخذ أي تدبير، ولم يطرح أي مشروع جديد لتقديم الدعم والحماية المناسبين للصناعات، التي تثبت، بجهود فردية، تفوّقها وتمايزها التنافسي في الأسواق بجميع المعايير رغم الصعوبات، والحكومات تقابل التحدّي بنَظم القصائد في الإنتاج الوطني ومزاياه، أو بخطوات جزئية يتخذها وزير فطن، ترحل معه في حقائبه وملفاته عند تبديل الحكومات. وحتى اليوم لم نقع على مبادرة سياسية واقعية قابلة للتحوّل إلى برامج عمل حكومية تنفيذية، واستصدار قوانين، تسهّل تأسيس المنشآت والمعامل بإعفاءات ضريبية وحوافز وتسهيلات، مع تشجيع عقد الشراكات المنتجة والتسويقية عربيا ومشرقيا، واقرار استراتيجية وطنية للتنمية الصناعية والزراعية. وما من خطوة اتُخذت او اقتُرحت في هذا الاتجاه اطلاقا من سنوات. ونسأل: إن لم يكن بعد هذه الكارثة فمتى؟.
ثالثا: اذا حسبنا ما تنفقه الخزينة على يوميات الأزمة، وهو يُصرف في عناوين دعم استهلاكية، وقد طار من رصيد الاحتياط النقدي وموجودات الدولة والمصرف المركزي مليارات الدولارات، التي تبخرت في محرقة الاستهلاك، وتوزعت أشلاؤها في جيوب التجار وحساباتهم الموجودة لدى البنوك الأجنبية، ولا من يعتبر، نتساءل: ماذا لو كان القليل من تلك المليارات قد خصص للتوظيف المنتج صناعيا وزراعيا في سياق خطة انتاجية وطنية للتنمية؟. ما يجري اليوم هو تصفية سياسة الدعم وتعميم نظام اليد المرفوعة والسوق الفالتة في قبضة الاحتكارات والسماسرة، ونمط الاستهلاك التابع المتخلّف على حساب الإنتاج، الذي يكابد بفروعه الحية مجردا من أي حماية أو دعم، وهذه مأساة مفجعة. من هنا نوجّه الدعوة إلى حملة إعلامية سياسية شاملة من قلب الكارثة، عنوانها أولوية إنهاض وتنمية الصناعة والزراعة.