مبادرات تتخطى بؤس العاهات السياسية
غالب قنديل
الكآبة المطبقة التي تثقل الصدور والعقول في زمن الانهيار الكارثي لا يجب أن تطمس فسحات الضوء الساطعة والفرص الواعدة، التي تتراكم مؤشراتها وبوادرها خلف كومة الأخبار المحزنة. ولا ينبغي أن تخمد النداءات والأفكار الخلّاقة في ضجيج العويل والندب، اللذين يكتسحان فضاءاتنا الواقعية والافتراضية. وعلينا دائما أن نحثّ المبادرين على تطوير كلّ فكرة خلّاقة بشجاعة وجرأة. ولنتذكّر جيدا أن الأفكار والمبادرات العظيمة في تاريخ الأمم العريقة ظهرت في أزمنة شدة واختناق. والأجدى من غيبوبة الانشداه والخبل إطلاق العنان للمخيّلة ولروح الابتكار والتحدّي عبر التحرّك العاجل لنسف مظاهر البطالة الفكرية والكسل الثقافي وحالة العقم والكساح والسلبية الانتظارية، التي هي جزء عضوي من استسلام خطيرة وخبل لا فكاك منه.
أولا: تفيدنا عِبرة التجارب وعصارة الحضارات الحية بأهمية انتباه القادة والمفكرين، في مثل ظروفنا الحرجة، إلى خطورة اجترار الوصفات البالية دون مراجعتها أمام التحولات والتغييرات. وتلك هي أثمن ما يقودنا اليه الوعي النقدي للتاريخ الإنساني المعاصر والقديم. ودائما كان التوثّب الحضاري حاصل مبادرات شجاعة، اقتحمت مستحيلا افتراضيا خيّم، وأفكار مسبقة شائعة، أعطيت صفة البديهيات، لتأبيد سيطرة القوى المهيمنة اقتصاديا وسياسيا على العقل الإنساني، وكبح طاقات جبّارة، يمكن لو انعتقت من أسرها أن تعكس الاتجاه بفضل فكرة خلاقة ملهمة وبإرادة صلبة وعقول مبدعة. ويكفي اليوم ان نسأل ماذا كان سيحصل لو انهارت تلك الحفنة الصغيرة من الفتيان المبادرين، الذين قادهم فتى شجاع في مقتبل العمر اسمه عماد مغنية وعدد من أقرانه وأبناء جيله في أحزابٍ وحركاتٍ مناضلة أمام زحف الدبابات الصهيونية وأزيز الطيران الحربي، الذي حجب ضوء الشمس ونور النهار وأشعل الليل بقنابله القاتلة الحارقة، وهو يستند إلى بوارج الأسطول الأميركي الأطلسي وآلة حربية عالمية قاهرة احتلت بحرنا وشواطئنا بالتزامن مع الاحتلال الصهيوني لترابنا الوطني.
كلّ تحوّل تاريخي عظيم انطلق بحلم وبفكرة بدت مستحيلة، وشقّت طريقها بالوعي والتصميم والإرادة لأنها تعانق لحظة تاريخية، وتلبي ضرورةً، وتستمدّ من جذور الواقع ومعانقة آلام الناس وأحلامهم قوة اندفاع هائلة، تقتحم المستحيل. وهذه العِبرة تمثّل روح المبادرة التاريخية لتجاوز الانهيار الاقتصادي واستنباط الفرص واستخراج القدرات الجبارة من رحم الكارثة السوداء القاتمة.
ثانيا: تمثّل البنى السياسية القائمة في لبنان عائقا خطيرا أمام فرص هامة لتخطّي الكارثة والانتقال إلى مرحلة واعدة ومشرقة من النمو والنهوض. وكفى بيانا أن يدير لبنان الرسمي ظهره لمبادرة إيرانية عظيمة وكريمة، بل سخية، يمكن ان تولّد طاقة نمو وازدهار اقتصادي تتخطى نطاق احتواء الكارثة. وعندما يكون قائد المقاومة السيد حسن نصرالله راعي تلك المبادرة، وهو يحمل معها رزمة أفكار وخطوات، يقترح بها تحويل رصيده النوعي والتاريخي إلى كفالة قابلة للصرف في إنعاش البلد ونهوضه، بينما يرون صمت القبور على الواقع السياسي المخبول، الذي يعجّ بالعملاء والمتخلّعين في غياهب استلاب مرضي بعيدا عن أي حسٍّ أو انتماءٍ وطنيّ أو إنساني.
لا يمكن في مثل هذه الحالة من الاستعصاء رهن ولادة المبادرات التاريخية بالجدارة وبالتوقيت اللازمين عبر الخضوع للحلقات الضعيفة المتهتّكة والمتخلّعة في النسيج السياسي الوطني. وتعديل نسبة القوى بالسّرعة اللازمة لالتقاط الفرص يفترض عملا ثوريا عاجلا لا تلبّيه المناشدة، ولا يحقّقه استجداء المواقف أو الرهان على صحوة ضمير لن تأتي أمام جاذبية المنافع وفعل العاهات والعيوب المتأصّلة وفعل الطباع المتجذّرة، والتي تصبح جزءا من المعادلة التاريخية عندما تلتصق بالقادة والزعماء عند المنعطفات. وفي جميع التجارب التاريخية المعاصرة، صنعت التغيير الحاسم خطوات شجاعة وصادمة وغير متوقعة صنعتها نخب تنكّبت القيادة وفرضت التغيير المستحق. لذا تتبدّى الحاجة اليوم إلى تكتّل سياسي شعبي واسع حول البوادر الإنقاذية والفرص الواعدة، لتعديل التوازنات الوطنية، وخنق القوى والأصوات المعيقة والمعرقلة، التي باتت مكشوفة في عملها لصالح مراكز الهيمنة والنهب الأجنبية، وانخلاعها الكلّي عن المصالح الوطنية والانتماء الوطني. وسيكون من الظلم الفاحش دعوة الناس إلى العضّ على جراحهم ولعق دمائهم حتى تصحو ضمائر لصوص البنوك وعملاء السفارات ومرتزقة النفط وسماسرة السفارات، ولا يشبههم في الروايات الأدبية والتاريخية إلا شايلوك المرابي وماري أنطوانيت. فما أشبه نصوص أهل النظام بمقايضة اقتطاع لحومنا بالدراهم أو بنصيحة أكل “البسكوت” في زمن فاقة وقلّة.
ثالثا: بكلّ صراحة، لامجال لأيّ مسايرة أو مداراة وخضوع للابتزاز أمام هذا الويل الزاحف، وما فيه من خراب وموت. وينبغي ألّا يهاب الوطنيون من الفرز على حّد السيف تاريخيا بين أنصار الخلاص ومعرقليه، وليكشفوا الحقائق أمام الناس، وليحركوا مبادراتٍ لحسم الصراع تاريخيا بين معسكر الخلاص الوطني وزمر العرقلة والإعاقة العميلة القاصرة، ولا عذر لعُتْه أو تخلّف في حشرة مصير كالتي نختنق فيها أو نكاد. إننا ندعو سائر الجهات والأحزاب والكتل الحيّة في لبنان إلى التلاقي والحوار حول كيفية فرض حشد القوى والطاقات حول المبادرات الإنقاذية، التي طرح عناوينها قائد المقاومة أمين عام حزب الله لشقّ مسار جديد، يقتضي شجاعة وحزما دون أيّ مسايرة، لوضع البلد على سكّة خلاص، تمنع الكارثة، وتوفّر ظروف الانتقال إلى مرحلة حافلة بفرص النمو والازدهار. عندما يقترح هذا القائد تحويل هيبته المعنوية ووهج دماء الشهداء وسطوة حزب المقاومة العظيم إلى رصيد يمكن تسييله اقتصاديا وماليا في شراكات مشرقية مشرّفة، وتنبري أبواق لبنانية عميلة ومشبوهة لتعترض وتعرقل، سيكون مفهوما لو أكلهم الفقراء بأسنانهم وازاحوهم من طريق الخلاص وعاملوهم بما تستحقه النفايات، التي تعترض طرق الشعوب إلى مستقبلها المشرق، وبالقسوة التي ميّزت مسار التاريخ دائما. فلا مجال للمساومة ولا للاختيار بين فرص الحياة واستنزاف مميت لا محالة.
المطلوب في هذه اللحظة التاريخية تَلاقي القوى الحيّة في جبهةٍ مبادِرة قادرة على تعديل التوازنات دون انتظار. فثمّة عاهات وعملاء، يقتضي كنسهم من سدة القرار، لتحرير الطاقات الوطنية وإطلاقها على مفارق التحوّلات والتحدّيات، بدلا من جذبها إلى الخلف لمسايرة الحلقات الأضعف، التي تفيض بقيحها النتن.