الاستعمار المهزوم ينجح في عرقلة النمو
غالب قنديل
الفشل والخيبة هما الحصيلة التي انجلت عنها أكثر من عشرين عاما، شهدت أعنف الحروب والغزوات الدموية، التي خطّط لها وخاضها مباشرة أو قادها من الخلف أخطبوط الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية، الذي طوّر من أساليب عمله وخططه الاستراتيجية والتكتيكة.
أولا: الصفحة المشرقة في مشهد المنطقة الراهن، كحصيلة للسنوات الأصعب، لا ينبغي أن تطمس الأمر الأشد صعوبة وقسوة، وهو حصاد التدمير والقتل والتخريب المحقّق في موارد الثروة وصروح العمران والقوى الإنسانية المنتجة على مدى بلدان المشرق العربي، وبالأخصّ في سورية ولبنان والعراق، وحيث يصعب تخيّل حجم التكاليف والأعباء الناتجة عن ذلك الحصاد الكارثي. والأمر يتبدّى على حقيقته عندما ندرس المشهد العام بالعلاقة مع الزمن. فما جرى على مدى عشرين عاما تخطّى حدود الاستنزاف الناتج عن الدمار والخراب والموت في أتون الغزو والإرهاب، بما في ذلك من تدمير للثروة ومواردها، وتعطيل لتراكمها عبر شلّ مرافق الإنتاج الوطني. وترتبت في الحصيلة آثار ضخمة، سوف تتحمل أعباءها أجيال قادمة على مدى عقود، خصوصا إذا رصدنا مفاعيل هذه السنوات الدامية على جميع مؤشرات التنمية البشرية والعمرانية.
ثانيا: سوف يكون على سورية والعراق ولبنان في السنوات القليلة القادمة إنفاق عشرات المليارات على البنى الأساسية المدمّرة، وعلى خطط إعادة تأهيل عشرات الملايين من المواطنين، الذين دفعتهم سنوات التوحّش الدموي في دوامة الأمّية والجهل والبطالة وعدم الأهلية، وتوفير الأنظمة الطبية والغذائية المناسبة في احتواء كارثة اجتماعية شاملة. اما كلفة ترميم القدرات البشرية وإعادة تأهيلها، فهي الأخطر، وكفى بيانا ان تتفشّى الأمّية في صفوف الملايين، وفي دول كالعراق وسورية، ظلّت لأعوام تزهو بمعدلات تعليم مرتفعة، وأوشكت ان تحتفل بالقضاء الناجز على الأمّية عشية انفجار البركان الأسود، وغزو “طيور الظلام” لسماء الشرق العربي.
لقد أوقفت الغزوة مسار التطور، وفرضت كلفة مضاعفة على بلدان المشرق، وأخّرت نموها، ودفعتها في مستنقع دماء وركام وتخلف سحيق عمرانيا وإنسانيا، حيث الحلقة الأخطر في مخطّط التدمير المنهجي، وهو ما سيجعل الظروف أشد صعوبة على الحكومات، حيث يمثّل ترميم القدرات الإنسانية المنتجة وإعادة تأهيلها مجتمعيا الحلقة الأصعب والأدقّ في مسار التعافي والترميم والنهوض الجديد، وهذه العملية المركّبة بفصولها، لا يمكن ربطها بأي مساعدة خارجية، فالشراكات الشرقية الممكنة تفترض مسارات وطنية رشيدة في معالجة التحديات، واتباع خطوات راسخة في تخطّي الكارثة، وأي مساعدة ممكنة من الشركاء والأشقاء تقتضي توافر الخطط والأطر والقنوات الوطنية المؤهلة لاحتوائها وتوظيفها.
ثالثا: إن دعوتنا إلى الحوار والنقاش في هذه العناوين غايتها المساهمة في تنوير شامل للرأي العام، يضع الناس أمام مسؤوليات وطنية عاجلة، نشاركهم محاولة النهوض بها والاستدلال على الخبرات والتجارب، التي يمكن لبلدنا ان يسترشد بها لخفض الكلفة واختصار المسافة الزمنية، وربما لبناننا هو الحلقة الأضعف بسبب نظامه المعطوب المنهار، وبعض نخبه التالفة المرتهنة، وبفعل تداعيات الخراب ونتائجه الاقتصادية والسياسية والإعلامية، التي فتحت مزيدا من منافذ التدخّل الأجنبي في المنطقة برمّتها عبر منصّات وممرات لبنانية أقلّ كلفة من السابق.
تعوّد اللبنانيون أن ينظروا إلى الخارج، لكنهم اليوم مدعوون بداية للنظر إلى أنفسهم والتحديق جيدا بتمعّن وعقلانية، علّهم يدركون مصادر الخطر ومكامن القوة وفرص القيامة المستحقّة برؤية جديدة، تتخطى التأمّلات الوردية إلى تحدّي العقبات وتذليلها، وفق روزنامة وجداول أعمال واضحة ومعلنة بدلا من هدر الزمن والطاقات الحية الكامنة في علك الفراغ ولحس المبرد، وحتى لا نصل إلى الندم الأدهى والأفظع على بلد خسرنا فرصه الواعدة وخرّبنا صروحه الباقية..