لبنان وسورية: الفرص التي تطمسها الأحقاد
غالب قنديل
ما يزال المزاج اللبناني السياسي والشعبي تائها في حلقات عبثية متوحّشة من الكراهية واللاعقلانية، بل والعنصرية في التعامل مع مواضيع العلاقة اللبنانية – السورية، التي تنطوي واقعيا وعلميا على الكثير من الفرص والمزايا والإمكانات، التي يحتاجها البلد بعد الانهيار الاقتصادي والمالي المدمّر، الذي أكل الأخضر واليابس وحوّل فقاعة الازدهار الموهوم إلى هوة سحيقة من التراجع والركود، بل والانسداد غير المسبوق.
أولا: رغم كل ما جرى حتى اليوم لم يتخفف العقل الجمعي اللبناني من مظاهر “النفخة الكذاب” ونزعة التشوّف العنصري على الشقيق السوري، الذي يختزن كثيرا من المزايا والقدرات، بل هو تفوّق في الإتقان والتدبير في العديد من المجالات. وقد شحذته التجارب بخبرات وقدرات متنوعة وبروح المثابرة والصبر، التي تخلّى الكثير من اللبنانيين عنها في سكرة الفورة المالية الخادعة وأرباحها السريعة وورمها المصطنع، وهم اليوم في متاهة معاناة وألم بعد انهيار الفقّاعة الوهمية والهاوية السحيقة، التي تدحرج إليها البلد في جميع المجالات، التي لحقت بها آثار وخسائر مؤلمة بعد الإعصار الاقتصادي والمالي.
إن المتابع يدهش واقعيا بمتانة البنية الإنتاجية السورية وتنوّعها وقابليتها للتعافي والنمو بإمكانات وطنية، وبغضّ النظر عن فرص الشراكة الممكنة الجاري استثمارها وتوظيفها بأفضل ما هو متاح، وحيث تظهر القيادة السورية رشدا وحكمة ونضجا، يزيد من الفرص، ويصدّ التحديات الخطيرة، رغم ضراوة الحرب العدوانية الوحشية، التي اجتمع فيها فتك عصابات التكفير الدموي وبطش جيوش الغزو الأجنبي، وشهدت أفظع جرائم نهب الثروة وتخريب مواردها دون استثناء، بصورة متواصلة لما يزيد على عشر سنوات، ناهيك عن وطأة الحصار المستمر ومنظومة العقوبات الخانقة.
ثانيا: للأسف، يتزامن التعافي السوري مع دخول لبنان في مسار انهيار غير مسبوق، وخراب شبه كلّي لمرافق الإنتاج. ويظهر في المفارقة، ورغم المعاناة، أن فرص التعاون والتكامل هي الخيار المستقبلي الواعد للشراكة، التي يمكن أن تعود بخير كثير على البلدين والشعبين، وتؤسس لنواة كتلة إقليمية نامية، وقابلة للتوسّع بشراكات ممكنة وواعدة مع العراق وإيران تحت سقف التقارب السياسي الممكن، وبمنطق احترام الخصوصيات السياسية الوطنية لكل بلد ولنظامه الوطني ومؤسساته الدستورية. فالتكامل على أساس المصالح المشتركة مع احترام تعدد الأنظمة والعقائد واختلافها بين بلداننا، هو الإطار الممكن لتحويل عناصر الاختلاف والتمايز إلى عوامل قوة، يبنى عليها، وهذه هي الروح، التي يجب أن تعمّ المشرق إعلاميا وثقافيا، لتجعل الحلم بالتكتّل الإقليمي الحضاري المنتج والمزدهر واقعا حيّا ومجسّدا بمؤسسات للشراكة والتعاون.
إن الحصاد الممكن لهذا المشروع سيطلق موجة نمو وازدهار ورخاء في بلداننا، ويعزز من قوة التلاحم والتضامن الأخوي في وجه التحديات المشتركة. ومن الواجب العمل بكل الوسائل لتحويل العلاقة اللبنانية – السورية إلى نموذج خلاق لفكرة التعاون في الشرق العربي، وجسرا للتكتّل المشرقي الأوسع، ولتعاظم تلك القوة الإقليمية الاقتصادية والسياسية على أساس احترام الخصائص وعناصر التمايز بتحويلها إلى مصادر قوة وتميّز للتكتّل الإقليمي الممكن.
ثالثا: يفترض أن يكون اللبنانيون في غالبيتهم شعبا ونخبا سياسية وإعلامية وثقافية، قد اكتسبوا بعض الواقعية والتواضع في التعامل مع الآخرين، وفي نظرتهم إليهم، ليكونوا قادرين على مد الجسور، وشبك العلاقات بروح التعاون والاحترام المتبادل وخدمة المصالح المشتركة. وهذه الروح هي رصيد ومصدر قوة في مجابهة التحديات والكفاح لتخطي الانهيار، والنهوض من جديد بقوة واقتدار وبشراكة سليمة ومتكافئة بلا أورام وانتفاخات وترسّبات. ولا بد في هذا السياق من دعوة الإعلام اللبناني والمثقفين والكتّاب لتحريك النقاش عبر وسائل الإعلام بروح النقد الذاتي، والنظرة الواقعية الجديدة، وهجرة الادعاءات الفارغة والتشوّف، وهي مظاهر مرضية لابد من تعريتها في سياق مراكمة وعي مجتمعي جديد، يناسب التصدّي للتحديات والتقاط الفرص الواعدة.
يحتاج اللبنانيون للتخلّي عن عقلية التشوّف والابتزاز، وأن ينظروا حولهم بواقعية إلى جميع الأشقاء والشركاء، ليتمكنوا من تخطّي المحنة، وليستطيعوا فعلا تنمية واستثمار ما لديهم من المزايا والمهارات والشراكة في عائداتها الوفيرة مع أخوة المصير.