أيّها المواطن أنت المسؤول الأول !: د. عدنان منصور _
على مدار سنوات طويلة، والشعب يكيل التهم لزمرة الطبقة الحاكمة التي جعلت البلد وشعبه في الحضيص، يندّد بها، يقذفها بالشتائم، يدينها، يلعنها، ولا يتوقف عن انتقاداته المتواصلة لها، وعن سبّها بشتى أنواع المغرّدات من العيار الثقيل، وإطلاق العنان لغضبه عليها.
لكن أين تقع مسؤولية المواطن حيال الانهيار الحاصل في البلد؟! أليست تركيبة المواطن الفكرية، وانتماؤه الطائفي، وسلوكه الأناني في أحيان كثيرة، وولاؤه المطلق الأعمى للزعيم السياسي دون غيره، وتأليهه له، والسير وراءه مغمض العينين، وانغلاقه السياسي والفكري والثقافي والاجتماعي على الآخر، من العوامل الرئيسة التي تشجع قادة وزعماء الطبقة السياسية على الإمساك برقبة المواطن، وتتربّع على كتفيه، ولسان حاله يقول: عرف الحبيب مقامه فتدلّل.
السياسي المسؤول استشرس وهو في مراكز السلطة، نتيجة خضوع وانصياع واستزلام المواطن له. فهل تكفي راجمات الشتائم يميناً وشمالاً، كي يحصل المواطن على حقوقه؟! هل يكفي صراخه للجم ارتفاع الأسعار وتحسين الحياة المعيشية؟! هل يكفي التنديد بحاكم المصرف المركزي المؤتمن على مال الدولة، والتشهير بجمعية المصارف «الأمينة» «النزيهة» لاسترجاع أموال الناس المنهوبة؟! هل يكفي هذا الكمّ الهائل من التعليقات الكاريكاتورية الهزلية، ومن الرسوم اللاذعة المضحكة، والمقالات النارية التي تحاكي وضعنا المأسوي، وتحاكي مواضيع جوهرية تتعلق مباشرة ببؤس وعذاب شعب، وقوت يومه، وفقره وجوعه؟!
لماذا أدمن المواطن على الذلّ والخنوع والقبول بالأمر الواقع الذي تفرضه عليه رغماً عنه، زمرة من اللصوص والقطّاع الفجرة، سالبي أرزاق الشعب، وسارقي حتى عمره وحقوقه؟!
لماذا تأقلم المواطن مع انقطاع الكهرباء، ليرى البديل في المولدات بدلاً من أن يأخذ حقه بالقوة؟! لماذا تأقلم اللبناني مع انقطاع مياه الدولة وارتضى بديلاً عنها تجار المياه ومحتكري الصهاريج والخزانات؟! لماذا يتأقلم اللبناني مع انقطاع البنزين، ليفرح في ما بعد، إذا ما ملأ خزان سيارته بصفيحة، وليعتبر بعد ذلك أنه حقق إنجازاً عظيماً لنفسه دون سواه؟! لماذا يرضخ المواطن لعدم تطبيق تكافؤ الفرص، وتوظيف أصحاب الكفاءات بدلاً من توظيف المستزلمين والفاشلين، والمحاسيب، ليرى ضالته بعد ذلك في الهجرة الى الخارج، والوقوف على باب السفارات، يستجدي تأشيرة سفر من هنا او تأشيرة من هناك؟!
لماذا يتأقلم المواطن مع حفر الطرقات الذي يسير عليها، ويرى براعته في أنه يعرف مكانها قبل الوصول اليها ليتجنب السقوط فيها، بدلاً من أن ينتزع من المسؤولين الفاشلين الفاسدين عديمي الضمير في الوزارة المختصة قراراً بتزفيتها؟!
لماذا يرضخ المواطن للارتفاع العشوائي لأسعار السلع الذي وراءه تجار فجار جشعين لا ضمير لهم ولا دين، يشاركهم مسؤولون في الإدارات المختصة، ويكتفي بالإعراب عن التذمّر وصعوبة العيش الكريم، دون أن يلاحقهم ويشهّر بهم ويكشفهم على حقيقتهم!!
لماذا يصرّ المواطن على الارتماء في أحضان زعيمه وجلاده، يردّد على مسامعه نفاقاً وذلاً أنه يفديه بروحه ودمه، وهو الذي يعرف جيداً أنّ زعيمه يمتطيه ويجلده، ويسرقه في وضح النهار، ويتصرّف به كمن يتصرف ويعبث بدمية رخيصة، وأنه العلة الأساس التي أوصلت الشعب الى الحضيض الذي هو فيه؟!
لماذا يتأفف المواطن من ارتفاع الأسعار، ويشكو من إفلاسه، وتبخّر معاشه، ويتذمّر من أوضاعه، ثم يدافع بكلّ حماس وجهل عمّن أفلسه، وسرقه ونهبه، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، معتبراً إياه دون الآخرين،
إنه الشريف، النزيه المترفع عن الفساد، ضمانة الشعب والوطن، والمنقذ الذي لا مثيل له؟!
لماذا يُصرّ كلّ مواطن على الدفاع عن سياسة وسلوك زعيمه، وينزهّه عن باقي السياسيين والزعماء، فيصبح جميع السياسيين والزعماء، بموجب تعدّد الآراء للمواطنين حولهم، من الأخيار الفضلاء، الذين لا مثيل لهم في العالم!
لماذا يردّد المواطن كلّ سنة وكلّ يوم وكلّ ساعة إسطوانة مشروخة، يندّد فيها «بنوابه» و»ممثليه» في مجلس النواب، وهو الذي انتخبهم على مدار دورات متتالية، حتى إذا ما جرت الانتخابات اليوم، لوجدنا المواطن المروَّض الذي يهاجم نوابه، يعيد الكرة ثانية وثالثة لينتخبهم من جديد دون تفكير، أو تقييم لأدائهم «العالي المتميّز»، ودون نقد للذات او تردّد او التحلي بالمسؤولية الوطنية في حدّها الأدنى!
بأيّ منطق، وبأيّ حسّ إنساني، ووعي وطني، يصرّ المواطن على الاستمرار في انتخاب سلالة وراثية من «ممثليه» تتنقل بين الأب والإبن والصهر والشقيق والحفيد؟! لماذا كلّ هذه العبودية، وهذا العشق لهؤلاء وكأنّ الوطن أصبح لهم شركة مساهمة محدودة المسؤولية؟!
عندما يخرج المواطن من هيمنة تجار الطوائف، وعباءة الزعماء، وجلباب المنطقة، والحي، والعائلة، وعندما يقف وقفة واحدة، يتحرّر فيها من الإقطاع «النفسي» ومن العقد والقيود، والمحاباة، والاستزلام الأعمى الذي يكبّله ويستعبده من جيل إلى جيل، ويتطلع بعقله وبصيرته الى دولة مواطنة تحترم نفسها، تحقق له مطالبه المشروعة، ويتحرّر من سلطة الإقطاع والطوائف، ويقف في وجه تحالف لصوص رؤوس الأموال المنهوبة، والابتعاد عن نزعة العصبيات، والتوقف عن الولاء الأعمى للزعماء وتجار الوطن والشعب قبل الولاء للوطن الواحد، والتحرّر من سلطة أولياء نعمته، عندها فقط يستطيع أن يثور، وينفض عن كاهله استبداد الطغاة له، ومستغليه، ومصادري حقوقه، ويومه وغده ومستقبله.
حقوقك أيها المواطن تؤخذ بالقوة من المستغلين المفسدين القابضين على السلطة، وليست منّة او هبة منهم تعطى لك.
اعلم أنّ من دمّر وطناً، وسرق شعباً، واستباح أرزاق وودائع الناس، بارع في دهائه وخبث سلوكه وقذارة أخلاقه. فهو يعرف بامتياز كيف يأخذ ولا يعطي، وهو الذي تعوّد وأدمن على الأخذ والنهب. لأنّ «المسؤول» يعرف مسبقاً مدى ردّ فعلك الهزيل له، ومدى ولائك الدائم له، لتصبح كغيمة هارون الرشيد، ومسؤولك وزعيمك يتمتم في داخله ويقول لك: افعل ما شئت، واعترض، أصرخ واشتم متى شئت، وكيف ما شئت، فإنّ ولاءك سيعود لي!
متى يعي المواطن حقيقته ودوره، ويعرف كيف يتحرّر من طغمة زعمائه، ليستردّ حقوقه، ويصفي حسابه مع سارقه وبائعه، ويزيحه عن كتفيه!
عندما يعي المواطن حقيقته، وحقيقة تسخيره في خدمة جلاده، عندها فقط، سيكون له مكان لائق في بلد لم تنتعش فيه وللأسف الشديد، إلا عصابة وطغمة من السياسيين المتسلطين المفسدين، وطبقة من اللصوص المستغلين!
أيها المواطن! قم وانهض، واستيقظ من سباتك العميق الذي طال، فأنت المسؤول الأول عما آلت إليه حياتك المزرية. فلا تشكو وتتذمّر، لا تلعن وتشتم وتسبّ بعد اليوم من ارتضيت أن تكون لهم في خدمتهم، وتحت الأمر والطاعة !
*وزير الخارجيّة والمغتربين الأسبق
(البناء)